«داعش»… التعبير الوحيد الذي تلفّظ به ميشال سماحة فور خروجه الأسطوري من السجن اللبناني. «داعش»، قالها الرجل بغبطة، وكأنها الحصيلة الوحيدة لأكثر من ألف يوم أمضاها الرجل المقاوم في السجن. «داعش» هدية السماء لميشال سماحة أيضاً. علينا أن نُدقق ملياً في مشهد الرجل ينطقها. علينا أن نعيد مشاهدة الشريط وأن نصفن ملياً. قالها من دون مناسبة. خرج من السجن وأراد أن يقول كلمة واحدة قبل أن يلتزم بقرار ضباط المحكمة العسكرية التي أطلقته، فنطقها على نحو إنشادي. اختلط نطقه لها بغبطة الخروج الخرافي من السجن.
علينا أن نكرر نطق العبارة من بعده لكي نشعر بما يشعر. «داعش… داعش… داعش». وربما كان مفيداً أن نُلحنها ونميل برؤوسنا على نحو ما يفعل المُـــطربون. إنها اللحظة التي طَربَ فيها ميشال سماحة، والتي لم يجد فيها ما يقول غير ذاك التعبير. «دولة الإسلام في العراق والــشام»، أي «داعش». الأحرف الأربعة التي يؤدي اصطفافها متعاقبة إلى ذلك الشعور الغامض. البراءة حين تقع على قاتل! هل من شيء أقرب إلى الشعر من حقيقة أن ميشال سماحة خرج من السجن من دون أن يُبرأ؟
والحال أن «داعش» هو الدمية التي رُميت بين أقدامنا كلنا. النصر غير المتحقق على الشر وعلى النفس وعلى المستقبل. ففي اليوم الذي كان فيه سماحة يُغرد خارج السجن، كانت الجيوش الروسية والإيرانية والسورية تتقدم على كل جبهات المُدن السورية التي تقاتل فيها فصائل أخرى، باستثناء جبهة دير الزور التي كان «داعش» يتقدم فيها لينتزع المدينة من يد جيش النظام السوري.
هزيمة «داعش» في دير الزور، فيما لو وقعت، ما كانت لتتيح للمقاوم ميشال سماحة أن يصدح مغرداً بالتعبير اليتيم. إذاً، يجب أن يكون هناك «داعش» ليكون هناك نصر على غيره. لكي يجيب سماحة عن سر المتفجرات التي نقلها بسيارته من دمشق إلى بيروت بهدف قتل من كان يريد قتلهم. ثم إن هزيمة «داعش» لو وقعت، لما أتيح للطائرات الروسية أن تقصف يومياً مناطق لا يسيطر عليها «داعش» في سورية، ولما اشترت تركيا نفطاً رخيصاً من الآبار السورية، ولما تسلّل الجيش التركي إلى شمال العراق استعداداً لملء فراغ يمكن أن يُخلفه «داعش».
و «داعش» الدمية، ليس دمية على نحو ما هي أحزابنا وعشائرنا ومُدننا دمى. الدمية «داعش» لا نلهو بها، نستعيرها لنداري بها أمراضنا تارة وجرائمنا تارة أخرى. المرضى بيننا أحالوا إليها أهوال أمراضهم، وأزاحوا فيها عن أنفسهم مهمة العلاج، أما المجرمون، فلا جريمة بعد «داعش»، وها هو ميشال سماحة الذي نقل 24 عبوة ناسفة بهدف قتل مدنيين ورجال دين صارت جريمته خلفه فقط لأنه أخرج الدمية في يوم الفضيحة.
يوم راح ناشطون يشيرون هازئين إلى أسامة بن لادن بصفته إرهابياً وسطياً، لم تكن الطرفة بلا معنى، فـ «داعش» كان أيضاً مدخلاً لقبولنا بـ «النصرة» ولتولّي كثر ممن يشبهوننا مهمة الدفاع عن موقع «النصرة» في إدلب وغيرها من المناطق التي تقاتل فيها هذه الجماعة الإرهابية. لا بل إن ناشطين ودعاة خارج سورية، وفي دول الجوار السوري، جاهروا بانحيازهم إلى «النصرة»، التنظيم الذي صنّفه العالم كله إرهابياً بما فيه حكومات تأوي هؤلاء الدعاة. وهذا الأمر ما كان ليتحقق لولا أن ثمة من يحرص على بقاء «داعش» كائناً جماعياً حياً وشاغلاً دولة ومساحات وصحارى وأنهاراً.
ليس ميشال سماحة وحده من يغبطه «داعش». فلنفكر بالجميع، بنوري المالكي مثلاً وبرجب طيب أردوغان، ناهيك ببوتين وأبو مازن الذي يسعى مستشاروه إلى تسويق المهمة الروسية. و «داعش» بهذا المعنى هو الطُعم الذي رماه الجميع للجميع، وهو إذ يتضخم يوماً بعد يوم، لا يجد سوى الأسماك الصغيرة في وجهه. فروسيا تقاتل «داعش» وتنتصر على جبهات غير جبهاتها مع التنظيم، والحكومة العراقية تُحرر الرمادي من أيدي التنظيم ممهدة لتحريرها من أهلها، فيما يتولى «الحشد الشعبي» التمهيد لنصر جديد للتنظيم في بعقوبة عبر قتل أهلها السنة.
و «داعش» الدمية ليس وهماً على نحو ما هي الدمى أوهام. إنه الحقيقة التي تبتلع الجميع. ها هي تبتلع فعلاً دير الزور، وهي وإن تلاشت في الرمادي، فإنها مقيمة في الرعب الذي يظهر في عيون عناصر الجيش العراقي هناك، وفي البساتين المحيطة بالمدينة، بحيث يشعر المرء بأن النصر على التنظيم في عاصمة الأنبار ما كان يُمكن أن يتحقق لولا وجود رغبة في الكذب.
الأرجح أن ميشال سماحة حين نطق بالتعبير، أبقى في حنجرته ما صمت عنه الجميع. صحيح أن الغبطة خانته ولم يتمكن من وقف تدفقها على ملامح وجهه في تلك اللحظة، إلا أن الغبطة بقيت خرساء ولم تُترجم عبارة صحيحة. إنه الصمت نفسه الذي ضُرب حول أسرار احتلال «داعش» كل المدن التي احتلّها، واستيلائه على جبال الأسلحة الحديثة من ثكنات الموصل والرمادي وتدمر والرقة. وهو الصمت نفسه على وجه الرئيس الأميركي عند تلقّيه أخبار سقوط المدن، بيد التنظيم. وهو اليوم يدرك أن الرمادي استعيدت في غير سياق هزيمة محتملة لـ «داعش» في المدن الأخرى.
العنجهية العسكرية الروسية لا تشمل الهزائم المتحققة على جبهات «داعش»، وفاعلية التكنولوجيا الجوية الأميركية لم تُفض إلى انتصار يُذكر على التنظيم، والكرامة المتضخمة لرجب طيب أردوغان لا تهتز عند انتهاك التنظيم سيادة أنقرة. أما العرب فينتظرون مترنحين ما ستؤول إليه أوضاع دولهم ومجتمعاتهم في ظل الحرب الوهمية على التنظيم المتوحش.
ميشال سماحة خرج من السجن في هذه الأجواء، والتقط الموجة وغرد بموجبها، وعرف أن لا موعد قريباً لهزيمة التنظيم. ذاك أن الكثير من المهمات لم تنجز بعد، والستاتيكو الذي يبدو أن «داعش» في صلبه ما زال يؤمن للجميع فرصاً أين منها فرصة الإفراج عن ميشال سماحة.