تقول الرواية أن ياسر عرفات، حين اعتزم تشكيل أوّل حكومة فلسطينية، تمنى على محمود درويش أن يشغل حقيبة الثقافة. وحين اعتذر الشاعر، ردّ القائد السياسي (باستفزاز ودّي، كما روى لي درويش شخصياً): لماذا ترفض؟ هل أنت أفضل من أندريه مالرو؟ ردّ درويش، باختصار ودون اقتباس حرفي بالطبع: الضفة والقطاع ليسا فرنسا، وأبو عمار ليس شارل ديغول، ودرويش ليس مالرو؛ أمّا إذا تقاربت هذه المسميات على أيّ نحو ممكن، فإني عندها أفضّل أن أكون جان ـ بول سارتر، وليس مالرو!
وبالطبع، كان الشاعر يقصد الإشارة إلى موقع المثقف النقدي، أو الناقد للسلطة على وجه الدقة، وليس الأديب المنضوي في الجهاز الحكومي؛ وكان سارتر قد شغل هذا المقام، بالضبط، خلال مواقفه المناهضة لبعض سياسات ديغول، الرئيس الفرنسي الأبرز في الجمهورية الخامسة. في المقابل، كان ديغول يدرك جيداً مكانة سارتر، وحين طالبه بعض مستشاريه باعتقال الفيلسوف ـ على خلفية الاضطرابات التي سببتها مواقفه من الاحتلال الفرنسي للجزائر، ودعوته إلى العصيان المدني ـ ردّ الرئيس: فولتير لا يُسجن!
وذات يوم قُيّض لي أن أستمع إلى نقاش خاص، على الغداء، في باريس، أواسط تسعينيات القرن الماضي؛ بين درويش وإدوارد سعيد، حول ممكنات وحدود هاتين الثنائيتين: عرفات/ ديغول، ودرويش/ سارتر. ولن أجيز لنفسي تفصيل موقفَيْ درويش وسعيد، فكلاهما غاب عن عالمنا هذا، وليس لي أن أقتبسهما دون شاهد؛ إلا أنني، يومذاك، لم أقاوم إغراء استعادة موقف سعيد من سارتر، كما رواه في مقالة قديمة، وما إذا كانت خلاصة تقييمه لشخصية سارتر قد تغيّرت في قليل أو كثير.
وفي مقالته، تلك، يروي سعيد تفاصيل مشاركته في ملتقى حول السلام في الشرق الأوسط، عُقد في باريس ربيع 1979، بدعوة من سارتر وسيمون دو بوفوار: كيف نُقل مكان الاجتماع إلى دار ميشيل فوكو، «لأسباب أمنية»؛ وكيف تأخر سارتر نفسه، ثمّ كان يلزم الصمت ساعات متواصلة؛ وكيف أنه لم يقدّم، في نهاية المطاف، سوى نصّ مكتوب يمزج بين الذكريات وامتداح شجاعة أنور السادات. الإنصاف يقتضي التذكير، هنا، إنّ سارتر لم يكن هو وحده المتعاطف بقوّة مع إسرائيل، في صفّ كبار فلاسفة فرنسا آنذاك؛ بل كانت هذه حال فوكو ودو بوفوار، والأحرى القول إنّ جيل دولوز كان أقلية الأقلية في دفاعه عن الحقّ الفلسطيني.
مناسبة هذه السطور هي ظاهرة فرنسية بامتياز يمكن، دون كبير مجازفة، تسميتها بـ»موضة سارتر»؛ لا تتراجع قليلاً، ويخفّ الحماس المقترن بها، إلا لكي تتقدّم أكثر من ذي قبل، ويتصاعد من حولها حماس أشدّ. «أين أمثال سارتر في أيامنا؟ أين أمثال فوكو؟ الكلّ يلهث إلى ستوديوهات التلفزة ليبيع بضاعته!»؛ يهتف كوستا غافراس، صاحب الفيلم الشهير Z، منتظراً بدائل الفيلسوفَيْن في التعليق على قضايا الحاضر، من ديون اليونان وحتى «داعش» وصعود اليمين الفرنسي المتطرف. ماتيلد رامادييه وأناييس دوبومييه أصدرتا كتاب رسوم متحركة بعنوان «سارتر»، يقع في 160 صفحة، يروي سيرة سارتر ويلخص فلسفته ويتوجه إلى شريحة قرّاء عريضة تبدأ من سنّ 16 سنة. والأكاديمية السويدية أدلت بدلوها في تأجيج «الموضة»، فكشفت النقاب عن أنها تلقت رسالة من سارتر تفيد بأنه سوف يرفض الجائزة إذا مُنحت له؛ لكنّ الرسالة وصلت متأخرة قليلاً، لأنّ عجائز الأكاديمية كانوا قد صوّتوا، لتوّهم، ومنحوه الجائزة…
ولكن… عن أيّ سارتر نتحدث، في نهاية الأمر؟ الفيلسوف الماركسي؟ أم الوجودي؟ أم «العالمثالثي»؟ كيف نعيد قراءة سجالاته الكبرى ضدّ مفكر فرنسي آخر (بارز بدوره، يميني حتى النخاع) مثل ريمون آرون؛ دون أن نعيد ترديد التنميطات الإيديولوجية القديمة، التي يُفترض أنها انقرضت إلى غير رجعة؟ وكيف سنضع بعض أهمّ أعماله، «الوجود والعدم» أو «نقد العقل الجدلي» أو «الأيدي القذرة» أو «الغثيان»، في سياقات العولمة التي تطبع عقود أزمنتنا، المعاصرة والراهنة؟
أم أنّ من حقّ الجميع أن يعيدوا قراءة النسخة التي يرتأون، من هذه الوجوه المتعدّدة لشخص سارتر المتقلّب: الفيلسوف الذي بدأ ماركسياً، ثم انتقل إلى الوجودية، وارتدّ بعدها إلى مهاجمة الماركسية؛ والرجل الذي عاد عن رفضه، فقبل جائزة نوبل «لأسباب مالية» كما قال؛ والناشط الذي برهنت الأيّام أنه كان، على نقيض ماركسيته، مناهضاً لفكرة تغيير العالم بعد تفسيره؟
وبهذا المعنى، ألم يكن أكثر إحراجاً لدرويش لو أنّ عرفات اقترح عليه أن يكون… سارتر فلسطين؟