في وصف روسيا وأنصارها كان إسقاط طائرة السوخوي “طعنة في الظهر”، وبتعريف حلفاء تركيا كانت” صفعة على وجه الدب الروسي”. بعد ساعات من الحادثة بلغ التصعيد أوجه بين الطرفين، لكن سرعان ما أدركا أن هناك حدودا لايمكن ولايرغب الطرفان في تخطيها. ليس في وارد الروس الدخول في مواجهة عسكرية مع تركيا، وليس بنية حلف الناتو مجاراة تركيا “الأردوغانية” في مغامراتها.
إلى هنا انتهت المخاوف المبالغ فيها من حرب عالمية ثالثة على وشك الإندلاع. شعر أردوغان أنه تسرع في إصدار أمر إسقاط الطائرة الروسية، وراح يبحث عن أعذار من قبيل أنه لو عرف هوية الطائرة لتغير الموقف، وطلب وساطة واشنطن وعواصم غربية لعقد اجتماع مع بوتين على هامش قمة المناخ في باريس.
لقد جنى الأتراك مكاسب في الجولة الأولى؛ صفعة أربكت الروس في سورية، ومنحت حلفاء تركيا من فصائل معارضة وأطراف إقليمية دفعة معنوية. بيد أن مفعول الصفعة تلاشى بعد قليل، وبات على القيادة التركية تكثيف اتصالاتها للتقليل من حجم الخسائر المترتبة على التحرش العنيف بالدب الروسي.
لم تتأخر القيادة الروسية في حصد المكاسب السياسية والميدانية في سورية؛ فإلى جانب العقوبات الاقتصادية، دفعت على الفور بمنظومة صواريخ أس 400 إلى ميدان المعركة، لقطع الطريق نهائيا على مشروع تركيا بإقامة منطقة آمنة داخل الأراضي السورية. وفي خطوة متوقعة، باشرت الطائرات الحربية بقصف مكثف على مواقع الجماعات المتمركزة على الحدود والموالية لتركيا، وشرعت بعملية واسعة لإغلاق المعابر الحدودية التي تعد بمثابة شرايين حياة للجماعات المسلحة، المتطرفة منها والمعتدلة. ووجدت روسيا دعما لهذه الخطوة من طرف فرنسا، التي أبدت استعدادها لدعم الجهود الروسية، لقطع طريق إمدادات “داعش”.
وإذا ما تمكنت روسيا من إغلاق الحدود بشكل كامل، فإنها بذلك تقضي على نفوذ تركيا في شمال سورية، وتمنح قوات النظام السوري والفصائل الكردية الفرصة لفرض سيطرتها على مناطق واسعة في الشمال. المؤكد أن تركيا لن تستسلم للحصار الروسي، وستحاول بشتى الطرق كسره. هنا تكمن الخطورة من مواجهة عسكرية جوية” بين روسيا وتركيا في سماء سورية.
على المستوى الدولي يخشى المراقبون من أن يؤدي التوتر بين روسيا وتركيا إلى تقويض”عملية فيينا” التي قطعت شوطا في دمج مساري مكافحة الإرهاب والحل السياسي في سورية بمسار واحد، وتستعد إلى إطلاق مفاوضات جدية بين النظام السوري والمعارضة خلال اجتماع الدول المشاركة منتصف الشهر المقبل.
روسيا لاعب رئيسي إلى جانب الولايات المتحدة في رعاية وإدارة مفاوضات فيينا، وكانت من أشد الدول دعما لفكرة دمج المسارين، مع الخلاف حول الأولويات بين القطبين، ولذلك ليس من مصلحتها انهيار محادثات فيينا.
الإدارة الأميركية تتعامل بجدية مع محادثات فيينا ولا تملك بديلا عنها، وستسعى لتطويق التصعيد الروسي التركي، وقد بدأت جهودا فعلية بهذا الاتجاه.
لن تعود العلاقات بين روسيا وتركيا لما كانت عليه قبل حادثة “السوخوي”، لكن حدود التصعيد بين الطرفين لن تتعدى سورية. سورية من جديد هى الميدان العالمي لتصفية الحسابات، وسننتظر طويلا قبل أن نرى نهاية لصراع المصالح؛ الإقليمي والدولي.