مذهولاً أتساءل: ما سر هذا الغياب العربي والإسلامي عن وقائع ما تتعرض له مدينة القدس بمقدساتها وهويتها الحضارية العربية الإسلامية التي تتعرض لعملية تهويد ومحو ممنهجة, لصالح تكريس المشروع الاستيطاني الاستعماري للكيان الصهيوني؟
هل غابت المشاعر الدينية التي تربطنا بقدس أقداس فلسطين, والأمة بشقيها العربي والإسلامي؟ هل نحن عاجزون إلى حد الثمالة, عن وقف كل هذه العدوانية ضد القدس التي يتعامل معها قطعان بني صهيون باعتبارها موروثاً خالصاً لهم, ويسعون بكل قوة وكفاءة واقتدار للاستحواذ عليها تمهيداً لإعادة إنتاج هيكل سليمان, الذي أكدت الكثير من الدراسات الأثرية الأجنبية الرصينة أنه لاعلاقة له بموقع المسجد الأقصى, بينما دراسات قطعان بني صهيون تحاول أن تروج لوجوده في هذا الموقع المقدس, ويتهافت علماؤهم لتأكيد هذا الوهم الراسخ في أذهانهم فحسب.
أين ما تم اتخاذه من قرارات عربية بشأن تمويل صناديق للأقصى لدعم صمود شعبها منذ سنوات طويلة, ولم تدفع الدول العربية سوى مبالغ ضئيلة من الاستحقاقات التي تضمنتها هذه القرارات, وكأن الأمر لا يعني أحدا وكأن القدس ليست عربية وكأننا استسلمنا لمخططات قطعان بني صهيون.
«لقد بلغ السيل الذبى», والعرب ساكنون والمسلمون مستغرقون في نوم عميق, بينما قطعان بني صهيون يواصلون العمل بدأب للانقضاض على القدس بأقصاها وتاريخها وشعبها, ووفقاً لتقرير قطاع فلسطين والأراضي العربية المحتلة بالجامعة العربية, والذي يشرف عليه السفير محمد صبيح فإن أحدث إجراءاتهم وخطواتهم تتمثل في:
أولاً: تصاعد وتيرة هدم المنازل في مدينة القدس المحتلة بشكل غير مسبوق وخاصة في الأحياء الفلسطينية المجاورة للمسجد الأقصى المبارك وطمس آثار المعالم المقدسية التاريخية، وعدوانها على مقبرتي مأمن الله وباب الرحمة المقدسيتين التاريخيتين اللتين تضمان رفاة كبار العلماء والصحابة الأجلاء وشهداء الفتح الإسلامي في عهد القائد صلاح الدين الأيوبي والقيام بتجريفهما إلى جانب سحب بطاقات هويات المقدسيين وهو ما يعني إلغاء وجودهم بمدينتهم المحتلة بهدف تغيير تركيبتها الديموغرافية لتحقيق أغلبية إسرائيلية على حساب الوجود العربي في القدس المحتلة.
ثانياً: إصدار حزمة قوانين عنصرية (ترقى إلى الإرهاب) لا علاقة لها بالقانون الدولي أو القانون الدولي الإنساني وتنتهك قرارات الشرعية الدولية ذات العلاقة بمدينة القدس المحتلة محذرا من تعالي الدعوات الإسرائيلية لإخراج مدينة القدس المحتلة من الولاية الهاشمية لها برغم أن مدينة القدس مدينة محتلة ينطبق عليها ما ينطبق على باقي الأراضي المحتلة الأخرى، وأن ولاية المملكة الأردنية الهاشمية للمدينة المقدسة هي ولاية أقرها القانون والمجتمع الدولي.
ثالثاً: الاستمرار في محاولات تقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً كمرحلة أولى تمهيداً لفرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة عليه ومن ثم تنفيذ دعوات الحاخامات المتطرفين بهدمه وإحلال (الهيكل المزعوم) محله وفي إجراء يكشف ازدواجية معايير وعنصرية ممارسات سلطات الاحتلال.
رابعاً: منع المصلين وطلاب حلقات العلم الفلسطينيين من دخول المسجد الأقصى المبارك واستبعاد فئات عمرية معينة مقابل السماح لجموع المستوطنين المتطرفين والسياح الأجانب بدخوله على شكل أفواج كبيرة.
خامساً: قيام المتطرف جلعاد آردان وزير الأمن الداخلي في إسرائيل (السلطة القائمة بالاحتلال) بمطالبة موشيه يعلون وزير جيش الاحتلال إدراج تنظيمي (المرابطون والمرابطات) في الحرم القدسي الشريف كتنظيمين غير ذي شرعية واعتبارهما خارجين عن القانون، وذلك في أعقاب تحرك مكثف قامت به منظمات إسرائيلية متطرفة تدعو لتشجيع زيارة اليهود للحرم المقدسي وإقامة الشعائر التلمودية بداخله، وهو ما حظي بموافقة جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) والادعاء العام في إسرائيل (السلطة القائمة بالاحتلال).
وفي هذا السياق، يؤكد التقرير أن (المرابطين والمرابطات) هما تنظيمان يدافعان عن المسجد الأقصى المبارك، وأن فتوى وزير أمن الاحتلال في إدراجهم ضمن التنظيمات المحظورة هو نوع من (إرهاب الدولة) الذي تمارسه سلطات الاحتلال ضد المدافعين عن المقدسات، إذ أن حماية هذه المقدسات هي حق مكفول في القانون الدولي، حيث إن من حق الفلسطينيين أن يضطلعوا بالدفاع بوسائل سلمية عن مقدساتهم، وكل أساليب الفلسطينيين السلمية التي يتبعونها في التصدي للمشاريع التهويدية، هي أساليب مشروعة في القانون الدولي لصون مقدساتهم.
سادسا: تصريحات كبار مسئولي الكيان الصهيوني وفي مقدمتهم رئيس حكومة سلطات الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي أعلن مراراً أن مدينة القدس (عاصمة أبدية وموحدة لليهود فقط) بالتزامن مع تصاعد الإجراءات التهويدية لفرض أمر واقع على الأرض في مدينة القدس المحتلة بشكل عام وفي المسجد الأقصى المبارك على وجه الخصوص، لتصب في خدمة المشروع التهويدي المسمى بـ(القدس 2020) الذي تعتزم سلطات الاحتلال المضي قدماً فيه دون اكتراث بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالمدينة المقدسة.
وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب الذي يتبعه قطعان بني صهيون – حسبما يؤكد التقرير- لن يعود بأي فائدة على مشروعهم الاستيطاني الاستعماري حيث إن هذه الممارسات والإجراءات والتصريحات تشكل عنصراً هاماً في استفزاز العالمين العربي والإسلامي والتي تمثل مدينة القدس لهما خطا أحمر، لن يسمحا بتجاوزه، لاسيما المسجد الأقصى المبارك (أقدس المقدسات الإسلامية)، غير أنه لا يتعين الوقوف عند هذا الحد وممارسة البكاء, والاكتفاء بمطالبة المجتمع الدولي ممثلاً بهيئاته ومنظماته ومنها الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني في العالم، وكافة المؤسسات الدولية ذات العلاقة، بالاضطلاع بدورها في التصدي لمثل هذه الإجراءات العنصرية التي ستقود فيها إسرائيل المنطقة, إلى تداعيات خطيرة تشعل من خلالها فتيل حرب دينية جديدة في هذه البقعة الحساسة من العالم, وإنما من الضرورة بمكان القيام بتحرك بخطوات جادة وحقيقية لوقف كل هذه الانتهاكات للقدس تاريخا وحضارة وهوية.
غير أن الخطوة الأهم في تقديري, تكمن في مسارعة الفلسطينيين بكل فصائلهم وقواهم لإعلان انتفاضة جديدة للدفاع عن القدس والأقصى, تعيد إنتاج انتفاضيتين سابقتين في ثمانينات وتسعينيات القرن الفائت ومطلع القرن الواحد والعشرين, على أن تنتهج من السلمية سبيلا حتى تحظى بالإسناد العالمي, ولا يوظفها الإعلام الصهيوني ضمن ما يطلق عليه بالأعمال الإرهابية, مما يجعله يلجأ إلى الاستخدام المفرط للقوة ضد شباب ورجال ونساء القدس وفلسطين, صحيح أن ثمة معلومات تشير إلى أن الجانبين الفلسطيني والصهيوني, يسعيان إلى تجنب مثل هذه الانتفاضة بحسبان كلفتها العالية عليهما, لكن مصائر الأوطان -وهو كلام موجه للفلسطينيين – لا يجب أن تخضع للحسابات الآنية أو المصالح الضيقة, غير أن ذلك يستوجب بداية استعادة المصالحة الوطنية المفقودة والغائبة أو بالأحرى المغيبة, بفعل فاعل منذ 2007, ما فتح ثغرة عميقة في جدار الصمود الفلسطيني والوحدة الوطنية, الأمر الذي وفر إمكانية هائلة أمام سلطات الاحتلال لتمارس التنكيل بالجميع: اعتداءات مستمرة على قطاع غزة وانتهاكات متواصلة للضفة بما في ذلك القدس والأقصى, بينما كل فصيل مشغول بتحقيق ذاته ومحاولة فرض معادلته على الأرض, وما أخشاه أن يواصل قطعان بني صهيون مشروعهم الاستعماري الاستيطاني ليس في القدس والأقصى, ولكن في كل أراضي فلسطين, على اعتبار أنها لا تجد من يدافع عنها أو ينتفض لوقف العدوان عليها, وفي الوقت نفسه فإن العرب مشغولون بالوحش الجديد الذي بات سيفاً مُسلّطاً عليهم والمتمثل في “داعش” وأخواته, والعالم لم يعد يعر القضية الفلسطينية أي اهتمام, سقطت من دائرة الحسابات الإقليمية والدولية فهل ثمة يقظة عربية وإسلامية خاصة أن اللجان والمنظمات التي أنشئت خصيصا من أجل القدس والأقصى, متعددة ومتنوعة لكنها هواء.. هواء.. هواء.
العزب الطيب الطاهر/يحدث في بر القدس الآن
12
المقالة السابقة