(بعد التوكل على الله.. واستجابة للمرجعية.. واحتراما لإرادة الشعب) بهذه المسوغات برر حيدر العبادي إطلاق الرزمة الأولى من برنامج الإصلاح يوم الأحد الماضي، وقد وعد بإطلاق المزيد في الأيام القليلة القادمة لابد أنها تعنى بالعدل ورفع الظلم واحترام حق الإنسان في الحرية والحياة. حقيقة لم يكن أمام العبادي من خيار آخر لتهدئة الجماهير الغاضبة وهو يعلم أن تحركه الوئيد هذه المرة سيكون ثمنه هو ومستقبله السياسي، بينما كان البديل أفضل وهو أن يتحول إلى زعيم وطني، يلبي حاجة الجماهير المحرومة ويضرب (بيد من حديد) بؤر الفساد، أن يستجيب على الفور ويخرج عن المألوف الذي درج عليه العراق منذ تشكيل أول حكومة منتخبة على أساس الدستور الدائم في عام 2005، العبادي لم ينتظر العمل بالسياقات الدستورية والقانونية لأنها بطيئة كما أنها غير مضمونة النتائج في ضل الفوضى وعملية سياسية عرجاء تهيمن عليها طبقة غالبيتها انتهازيون فاسدون، وشركاء متشاكسون من الصعب أن يجتمعوا على شيء.
بالكلام الفصيح، رغم جدارتها فإن قرارات العبادي لا دستورية ولا قانونية، وقد أشار العبادي في ديباجة القرار الذي أصدره إلى مطالب الجماهير وتوجيه المرجعية ليس إلا!! إذا العبادي في سابقة تاريخية وهو رئيس وزراء منتخب وفق الدستور يتخذ قرارات خطيرة دون سند قانوني أو مرجعية دستورية، لكنه مع ذلك مازال يحتكم للدستور وينوي تقديم هذه القرارات للتصويت عليها من قبل المشرعين، أي مجلس النواب!! هذه مفارقة.. وهي من جهة أخرى تقدم الدليل الصارخ على هشاشة العملية السياسية وضعف المؤسسات الديمقراطية في بلد ممزق كالعراق، وفي هذا الاتجاه نحى العبادي منحى الانقلابيين في الاستناد للشرعية الثورية أو الجماهيرية كما عزز قراره بالاستناد إلى توجيهات المرجعية سابغا على القرارات مسحة دينية مذهبية كي تلقى قبولا أوسع من جانب الجماهير الشيعية المحرومة الثائرة على النخبة الشيعية الفاسدة. وهذا دليل على الانحراف من الدولة المدنية إلى الدولة الدينية المذهبية.
حيدر العبادي تصرف خلاف جميع التوقعات، وضرب عصفورين بحجر وخرج من هذه الأزمة – حتى الآن على الأقل – منتصراً، بينما كان هو وحكومته مستهدفاً، ولو تردد العبادي ولم يحسم أمره لتصاعد خطاب المتظاهرين في الجمع القادمة إلى حد (حيدر العبادي.. ارحل) وهو ما كان يخطط له المخلوع نوري المالكي مدعوماً بالمليشيات الطائفية وهي تضغط منذ فترة لإسقاط العملية السياسية – رغم فشلها – وإلغاء الدستور وحل البرلمان وتحويل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي كنسخة من نظام الولي الفقيه في إيران، كل ذلك تمهيدا لعودة المخلوع للسلطة، وهكذا تجري عملية انقلاب كاملة تقودها الدولة العميقة بالخفاء وتنفذها جماهير غاضبة على تردي الخدمات ترفع سقف مطالبها تدريجيا إلى حد إسقاط النظام!! هذا ما كان مخططا لكن ضربة استباقية مباغتة من جانب العبادي قلبت السحر على الساحر. واليوم يضيق الخناق على المخلوع وبطانة السوء ويمنع من السفر ليلة الأحد – الإثنين، ويصرح لأول مرة استعداده للمثول أمام القضاء!!
قرارات تأخر صدورها كثيرا، تنفيذها سوف يستغرق وقتا طويلا، ولهذا لن ينعم المحرومون هذا الصيف بكفايتهم من خدمة الكهرباء ولا الفقراء بحصة كافية من الغذاء، ولن يتوفر للخريج العاطل فرصة للعمل، كما لن يستعيد العراق ملياراته المنهوبة بسهولة ويسر.. الخراب الذي حصل في العراق على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية سيستغرق إصلاحه عقود من الزمن. لكن فعالية قرارات العبادي تكمن في إيقاف الهدر المتواصل بالنفقات الحكومية من جهة وحماية المال العام بردع الفاسدين من جهة أخرى.
الحركة التصحيحية غير مكتملة الأركان ومن المتوقع أن تواجه تحديات كبيرة عند التنفيذ إذا لم تتبعها خطوات حازمة أخرى على جناح السرعة، وفي المقدمة منها تفكيك أركان الدولة العميقة التي بناها المخلوع المالكي وشرعنها رئيس مجلس القضاء مدحت المحمود الذي لابد من تنحيته ومنعه من السفر تمهيدا لملاحقته قانونيا على تستره على جرائم الإرهاب والفساد. أما إذا تردد العبادي واختار أنصاف الحلول فإنه يكون قد اختار الانتحار سياسيا.
وطالما تجرأ حيدر العبادي وكسر القيد الدستوري مستمدا شرعيته من الجماهير الغاضبة إذا ماذا يمنعه من المضي بالاتفاق مع رئاسة الجمهورية في تعليق الدستور وحل الأحزاب وإعلان حالة الطوارئ وتشكيل حكومة تكنوقراط مصغرة يدعمها فريق من المستشارين ذوي الكفاءة في مختلف المجالات. تمهيدا لتعديل الدستور، وكتابة قانون للأحزاب وتعديل قانون الانتخابات والدعوة لانتخابات مبكرة.
كلمة أخيرة، عندما تتواصل قرارات الإصلاح ويمضي حيدر العبادي في تنفيذها بحزم وسرعة ويعمل بجدية على استعادة وطنية القرار السياسي ويمنع التدخل الخارجي فإنه دون شك سيستقطب احترام الجميع وليس فقط أتباع مذهبه من الشيعة لكن حتى هؤلاء مازالوا يتطلعون إلى إعلان صك براءته من حزب الدعوة المسؤول عما آل إليه العراق من بؤس وتمزق وضياع، أما العرب السنة فهم يتطلعون إلى دور فاعل في حركة التصحيح هذه، سيما وقد سبقوا إخوانهم الشيعة في الحراك الشعبي الذي تواصل سلميا على مدى عام من الزمن وكانوا طرحوا مشروعا وطنيا من أربع عشرة نقطة كان من شأنه لو أخذ به المخلوع المالكي إصلاح أمر البلد نحو التنمية والاستقرار.
طارق الهاشمي/في العراق حركة تصحيحية غير مكتملة الأركان
17
المقالة السابقة