يستبطن السؤال أعلاه نقطتين متقاطعتين في السياق الأوسع للسجالات السياسية الراهنة. الأولى، نقطة توافقية، قائمة على قاعدة فهم مشترك إلى حد بعيد، وهي أن إيران و”داعش” يمثلان، كلا على حدة، خطراً شديداً على حاضر العالم العربي ومستقبله. والثانية، نقطة إشكالية، محل خلاف في التقديرات والمقاربات، بين قادة الرأي العام والمسؤولين في العواصم المعنية، المنقسمة على نفسها، بين من ترى أن “داعش” يجسد التهديد الآني الأشد خطراً، وبين من ترى أن المشروع الإمبراطوري الفارسي هو التهديد الأشد خطراً على مستقبل الأمة.
وإذا كانت المسألة التوافقية على جسامة الخطرين معاً، لا تحتاج إلى كثير من المناقشة، فإن الجدل حول النقطة الإشكالية، موضوع هذه القراءة، من المرجح له ألا ينتهي في أجل قريب، بل قد يشتد غداً لدى المثقفين وصانعي السياسات، إزاء أولوية المجابهة الأولى بالاهتمام والمعالجة، على ضوء المتغيرات المتلاحقة. كما أن تقدير الموقف الراهن لن يظل ثابتاً على حاله طوال الوقت. إذ كلما اشتد ساعد التنظيم المتوحش، تفرد بمركز الصدارة. وفي المقابل، كلما تفاقم التدخل الإيراني أكثر في المنطقة، ظفرت طهران بقصب السبق على سلم المنافسة المحتدمة.
وليس من شك في أن هناك تباينا بيّنا في وجهات نظر العامة والخاصة، تتراوح من بلد عربي لآخر، حول أي من الخطرين أشد، بحسب القرب الجغرافي، والاختلالات بين المكونات الاجتماعية، ودرجة لهيب الحرائق المشتعلة. إذ من المؤكد أن المكون السُنّي في العراق وسورية ولبنان واليمن، يرى الخطر الإيراني أشد هولاً من تهديد “داعش”، فيما تختلف الآراء في الدول الأخرى، التي تتحسب إزاء تمدد التنظيم إلى حدودها، حول أي الخطرين المتربصين ينبغي قرع الجرس له أولا، وربما أخذ زمام المبادرة ضده.
في الأردن، الدولة العربية المشرقية المخاطبة، إلى جانب دول الخليج العربي، بكلا التهديدين، لم يكن الخطر الإيراني محل نقاش سوى في أوساط النخبة، والتي ذهب البعض منها حد ترهيب الآخرين من مغبة طرح التغول الإيراني على مائدة البحث، بزعم أن هذا يمثل عملية إحلال لإيران محل إسرائيل على قائمة مركز العداوة التاريخية، فيما لم يتم تداول أي رأي رسمي حول أي من الخطرين له الأولوية، إلى أن استشهد الطيار معاذ الكساسبة، فبات خطر “داعش” يتقدم على كل ما عداه من أخطار محتملة.
ولما كان الشرق الأوسط مليئاً بالمفاجآت غير المنتظرة، ومنها مفاجأتنا الأخيرة بالمخطط الإرهابي الذي تقف إيران وراءه، فإن كل التوقعات محتملة، بما في ذلك احتمال إدخال الأردن تعديلاً على سلم أولوياته، على نحو يضع كلاً من “داعش” وإيران على قدم المساواة في معسكر الأخطار المحدقة. كما أن من المرجح أيضاً أن تخلق هذه المفاجأة، تحولاً عميقاً لدى الرأي العام، عندما يفرج القضاء عن الحيثيات المتعلقة بهذا المخطط الذي أدت اليقظة الأمنية إلى إحباطه في مهده، ويتضح لنا عندئذ إلى أي مدى كانت راعية الإرهاب في العالم، ضالعة في مخطط أشمل لزعزعة الأمن الأردني.
وأحسب أن حالنا، ونحن نقارن بين أي من الخطرين المحدقين بنا، أدهى وأمرّ من الآخر، كحال من يفاضل بين الطاعون والكوليرا وهما يحدقان به؛ الأمر الذي لا مفر معه من إبداء أعلى درجات الحذر واليقظة، وزيادة المنعة الذاتية، برفع سوية الاستعداد للمواجهة الأمنية السياسية الفكرية الاجتماعية طويلة الأمد، متنوعة الأشكال والوسائل، متعددة المراحل، سواء مع “داعش” الذي يقترب من الحدود الشرقية والشمالية، أو مع إيران التي باشرت التسلل إلى الداخل، وذلك بالدرجة ذاتها من الكفاءة والقوة المعهودتين، بما في ذلك الأخذ بروح المبادأة، والتفكير خارج الصندوق بخريطة طريق دفاعية هجومية ابتكارية حذرة، وفق ما تشير إليه بعض المؤشرات الأولية المبشرة.