النشرة الدولية –
في اللحظات الفاصلة من تاريخ الأمم، لا يتقدّم إلى الواجهة أولئك الذين يكثرون الكلام، بل الذين يشتغلون في العمق، بصمتٍ يشبه عمل الجذور وهي تمسك الأرض من تحتها، هناك، حيث لا تصفيق ولا أضواء، تُصاغ هوية المجتمعات، ويُحسم الصراع الحقيقي: صراع الوعي ضد التلاشي، والمعنى ضد الفراغ.
ومن هذا العمق تحديدًا، تولد التجارب التي لا تُقاس بعدد المناصب، بل بثقل الأثر، ولا تُروى كسِيَر، بل تُقرأ كتحولات.
الحديث عن علي اليوحة ليس استدعاء اسمٍ في سجل الإدارة الثقافية، بل فتح ملفّ مرحلةٍ كاملة أُعيد فيها تعريف الثقافة بوصفها قرارًا سياديًا، ووعيًا جمعيًا، ومسؤولية أخلاقية تجاه المستقبل، وهنا لا نتحدث عن إدارة مهرجانات أو إصدار كتب، بل عن رجل أدرك أن من يمسك بخيط الثقافة، إنما يمسك بخريطة الروح الوطنية بأكملها، وأن الدفاع عن الفن والمعرفة هو، في جوهره، دفاع عن الإنسان نفسه.
هذه ليست مقدمة لمقال، بل عتبة لنصٍّ عن تجربةٍ اشتبكت مع الزمن، وواجهت البيروقراطية، وراكمت المعنى بهدوء، حتى تحوّل العمل الثقافي من نشاطٍ موسمي إلى فعل دولة… وذاكرة لا تنطفئ.
أنه ليس سهلًا أن يُقاس أثر الرجال وهم في ذروة العطاء، فالأثر الحقيقي لا يُرى في اللحظة، بل يتكشف مع الزمن، حين تهدأ الضوضاء ويبقى ما أُنجز. وفي تجربة المهندس علي اليوحة، الأمين العام الأسبق للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نحن أمام نموذج نادر لرجلٍ أدرك مبكرًا أن الثقافة ليست زينة للمجتمعات، بل عمودها الفقري، وأنها ليست ترفًا يُستدعى في أوقات الرخاء، بل سلاح وعي في مواجهة التطرف والفراغ والانسحاب من المعنى.
منذ اللحظة الأولى، لم يتعامل اليوحة مع الثقافة بوصفها نشاطًا هامشيًا أو فعالية موسمية، بل باعتبارها مشروع دولة يحتاج إلى إدارة واعية، وإيمان عميق، ونَفَس طويل. كان يرى الثقافة منظومة متكاملة، لا تتجزأ ولا تُفاضل بين فن وآخر؛ فالمسرح والموسيقى، والكتاب، والفن التشكيلي، والآثار، والتراث، كلها تقف على المسافة ذاتها من الاحترام والدعم، لأن أي خلل في أحدها ينعكس على صورة المجتمع بأكمله.
الانضباط… الجذر الخفي للقيادة
في شهادته الشخصية، يعود اليوحة إلى الطفولة، لا ليحكي سيرة ذاتية، بل ليكشف الجذر الخفي لشخصيته القيادية: الانضباط. أبٌ نقابي صارم، يؤمن بالالتزام والعمل اليومي بلا ضجيج، زرع في ابنه قيمة نادرة في زمن الاستسهال: أن النجاح لا يولد صدفة، بل يُصنع بالمواظبة. هذا الانضباط لم يتحول إلى قسوة، بل إلى وعي، ولم يُلغِ الإنسانية، بل صقلها.
من الإدارة إلى الرؤية
حين انتقل من بلدية الكويت إلى المجلس الوطني، لم يكن انتقالًا وظيفيًا، بل عبورًا فكريًا. هناك، اتسعت الرؤية، وخرجت الثقافة من التعريف الضيق إلى الفضاء الرحب، فقد أدرك اليوحة أن القيادة الثقافية لا تُدار باللوائح وحدها، بل بالمعرفة، وبالقدرة على الإنصات للمبدعين، وبالشجاعة في اتخاذ القرار.
ولذلك، لم يتردد في خوض معارك صامتة مع البيروقراطية، ولا في الدفاع عن قرارات آمن بصحتها، حتى حين دفع ثمنها تحقيقًا أو إيقافًا. كان واضحًا في قناعته: العمل الجاد يزعج، لكن الشفافية تحمي، والسمعة المهنية لا تُساوَم.
المكتبة الوطنية… ذاكرة وطن
من أبرز محطات تجربته، تعامله مع المكتبة الوطنية بوصفها ذاكرة الدولة لا مجرد مؤسسة، فالرقمنة لم تكن خيارًا تقنيًا، بل قرارًا استراتيجيًا لإنقاذ المعرفة من التلف، وربط الماضي بالحاضر. كذلك، لم يكن تطوير الإصدارات نزوة تحديث، بل محاولة واعية لمدّ الجسور مع التعليم، والناشئة، واللغة، والتاريخ.
الثقافة لا تُدار فرديًا
كان اليوحة يؤمن بأن القيادة ليست استعراضًا فرديًا، بل عمل جماعي. لذلك أحاط نفسه بمستشارين وكفاءات، ومنحهم الثقة والمساحة، لأن الإدارة في نظره ليست سيطرة، بل تمكين، ومثلما آمن بالكوادر، آمن بمؤسسات المجتمع المدني، لا كشريك ثانوي، بل كطرف أصيل لا يكتمل المشروع الثقافي بدونه.
فيلكا… حين يتكلم الحجر
في ملف الآثار، تجلت رؤية التوازن الصعب: الحفاظ على أصالة المكان، وتهيئته للإنسان. تجربة التنقيب في فيلكا لم تكن مجرد بعثات علمية، بل مشروع سيادة ثقافية، حمى تاريخ الكويت من الاستباحة، وأنتج معرفة موثقة تُدرّس وتُترجم، وتبقى. ثمانية إصدارات علمية لم تكن أرقامًا، بل شهادة على أن الاستثمار في المعرفة هو الاستثمار الأكثر بقاءً.
رسالة إلى الجيل الجديد
في خلاصة التجربة، لا يقدّم علي اليوحة شعارات، بل وصية عملية: الإدارة أمانة، والقيادة أخلاق، والعمل الثقافي يحتاج عقلًا يعرف الأدب والفن، وقلبًا يعرف الإنسان، ويدًا تفهم المال والإدارة. أما الهوية، فلا تُحمى بالخطب، بل باستراتيجيات طويلة المدى، تُنفّذ بصبر، ويُراقَب أثرها بوعي.
هكذا تُبنى الدول من الداخل
ليس بالضجيج، ولا بالشعارات العابرة، بل برجال يفهمون أن الثقافة حين تُدار بصدق، تتحول من نشاط إلى مصير، ومن فعالية إلى ذاكرة، ومن وظيفة إلى رسالة.
ذلك هو جوهر تجربة علي اليوحة…ثقافة تُدار بعقل الدولة، وروح الإنسان.
