كشف المنخفض الجوي الأخير عن خلل لم يعد من الممكن إنكاره في الأداء الإداري الأردني، خلل يكتسب خطورته لا من حجمه فقط، بل من تاريخه. فالأردن الذي عُرفت إدارته العامة لعقود بالكفاءة والانضباط، وكانت نموذج يُحتذى ويُصدر خبراته لدول الجوار، يجد نفسه اليوم أمام اختبارات متكررة لا يجتازها بالكفاءة ذاتها. وما أظهره المطر لم يكن أزمة طقس، بل أزمة إدارة فقدت كثيرا من بريقها، وقدرتها على الاستباق، واكتفت بردّ الفعل بعد وقوع الحدث. وأعاد إلى الواجهة فجوة قديمة، بين ما يُخطط على الورق وما يمكث في الأرض.
ما شهدته محافظات عدة، خاصة في الجنوب، من سيول جارفة، وطرق مغلقة، ومنازل داهمتها المياه، لم يكن مفاجئاً بقدر ما كان مألوفا. المشهد تكرر بتفاصيله المعروفة؛ شوارع تحولت إلى سيول، مصارف عاجزة أو مسدودة، شبكات لم تكتمل أصلا، وارتباك إداري يتقدم خطوة واحدة متأخراً عن الحدث. وحين تُسأل الجهات المعنية، يأتي الجواب التقليدي؛ ضعف البنى التحتية! وهو جواب صحيح في توصيفه، لكنه خطير في دلالته، لأنه يعني أن المشكلة معروفة، ومزمنة، وترحّل من موسم لآخر.
في مدن الجنوب، حيث يفترض أن تكون إدارة مياه الأمطار جزءاً من الوعي التخطيطي اليومي، ظهرت الهشاشة بأوضح صورها. طرق حيوية انهارت أو انجرفت، مناطق عُزلت لساعات، ومواطنون وجدوا أنفسهم محاصرين بمياه كان من الممكن توجيهها لو أُخذت على محمل الجد منذ البداية. ورغم التحذيرات المسبقة من الحالة الجوية، بقيت الاستجابة أسيرة منطق الطوارئ لا منطق الاستعداد، وكأن المؤسسات تفاجأ بالمطر كل مرة، رغم أنه الزائر الأكثر انتظاماً في هذه القصة.
المفارقة المؤلمة أن هذه الأزمات لا تحتاج إلى عبقرية هندسية لفهمها، بل إلى ذاكرة قصيرة لا تُصاب بالنسيان كل شتاء. فقبل عقود، حين كنا طلبة في جامعة العلوم والتكنولوجيا في التسعينيات، كنا نشهد مناقشة مشاريع زملائنا من هندسة العمارة، كان الدرس قاسيا هناك، درس لم يكن موجّهًا لنا بقدر ما كان محفوراً في وعينا حتى اليوم. كان الأستاذ العراقي عبدالصاحب العزاوي، بصرامته المعروفة، يطلب من الطلبة أن يضعوا مخططات مشاريعهم على الأرض خارج قاعة المناقشة. لم يكن يبدأ بالواجهات ولا بالجماليات، بل كان يسأل السؤال الوحيد الذي يختصر الفلسفة كلها؛ أين يذهب ماء المطر؟ أين المزراب؟ فإن غاب الجواب، كان يدوس المخطط بقدميه، غير مكترث بدموع الطالب ولا بعدد الليالي التي سهرها في بناء النموذج الكرتوني. كان المشهد قاسياً، لكنه كان صادقًا. والرسالة التي أرادها لا تزال صحيحة؛ ما لا يحتمل المطر لا يستحق أن يُبنى!
ذلك الأستاذ العراقي، الذي عاش في الأردن، وواصل عمله الأكاديمي في جامعة العلوم والتكنولوجيا حتى وفاته، ورحل بصمت ودُفن في بلدة الصريح، لم يكن يدرّس تفصيلا فنياً، بل كان يزرع فلسفة كاملة؛ التخطيط يبدأ من الأسوأ احتمالاً، لا من أجمل تصور!
إذا كنا نحن، الذين لم ندرس العمارة، لم ننسَ ذلك الدرس، فكيف بمن تخرّجوا ليصمموا مدناً وطرقات وبنى تحتية؟
ومن هذا المنطلق، نأتي لمشروع مدينة عمرة الجديدة بوصفه خطوة مهمة ومطلوبة ندعمها بقوة، وفرصة حقيقية لتصحيح النهج لا لتوسيعه. فالدعم لهذا المشروع لا يتعارض مع طرح الأسئلة المهنية الضرورية، بل يكتمل بها. مدينة تُبنى من الصفر، وفي بيئة صحراوية مفتوحة، مطلوب بأن تُخطط على أساس أسوأ الاحتمالات، لا على متوسطها، وأن تُدرَس بعناية، حركة السيول وتصريف مياه الأمطار، بما في ذلك المياه التي قد تتدفق على شكل سيول جارفة نحوها من خارج الحدود.
فالاستدامة لا تبدأ بالواجهات الخضراء ولا بالشعارات الحديثة، بل بمنظومة تصريف قادرة على حماية المدينة وسكانها لعقود مقبلة. وإذا كان الهدف أن تكون مدينة عمرة نموذجاً حضريا جديدا، فإن نجاحها الحقيقي سيقاس بقدرتها على الصمود حين يُختبر التخطيط بالمطر، لا حين يُستعرض على الورق.
المشكلة، في جوهرها، لا تكمن في نقص المشاريع ولا في غياب الرؤى، بل في ثقافة إدارية تتعامل مع المطر كطارئ، ومع الصيانة كعبء، ومع التحذيرات كإجراءات شكلية. هي ثقافة تبرع في إدارة الأزمة أكثر مما تُتقن منعها، وتُجيد الخطاب بعد الكارثة أكثر مما تُجيد العمل قبلها. والمنخفض الأخير لم يكن قاسياً بقدر ما كان صريحا؛ قال لنا بوضوح إن المدن لا تُقاس بارتفاع أبراجها ولا باتساع مخططاتها، بل بقدرتها على الصمود حين تمطر!
وقبل أن نحتفي بأي مدينة جديدة، أو نعلّق آمالنا على مخططات مستقبلية براقة، ربما يجدر بنا أن نستعيد درس ذلك الأستاذ العراقي القاسي والعادل في آن واحد؛ ضع المزراب أولًا، ثم ارسم ما تشاء. فالماء لا يحترم الشعارات، ولا ينتظر البيانات، ولا يرحم التخطيط الذي يتجاهله!
