كان السابع من أكتوبر محطة مفصلية كشفت حجم التهور والقصور بقيادة حركة حماس. في البداية، انفعل الناس جميعاً، وظنّ كثيرون أنّ ما قامت به الحركة سيحرّر فلسطين، وسيبيض السجون الإسرائيلية، وسيعيد للأمة كرامتها. كل من تجرأ على انتقاد العملية ونتائجها الأولية وُصم بالخيانة، واتُهم بالعمالة والتساوق مع الاحتلال. لكن سرعان ما تبدّد هذا الوهم، لتتكشف أمام الجميع حقيقة مغايرة تماماً، وأدرك العالم أجمع، وأهل غزة قبل غيرهم، أنّ ما جرى لم يكن سوى كارثة على القطاع، وأنه لم يحقّق تحرير شبر واحد من فلسطين، ولم يحفظ الأقصى والمقدسات، ولم يحمِ الضفة من هجمات المستوطنين، ولم يحرّر الأسرى من المعتقلات، بل زاد وحشية الاحتلال بالتعامل معهم، وضيّق الخناق على شعبنا في الضفة الغربية.
لقد كان السابع من أكتوبر بمثابة دعوة مفتوحة للاحتلال لارتكاب كل ما يريد لتحقيق أهدافه وخططه. ومع ذلك، لا يمكن أن نعمّم الحماقة على كوادر حماس، بل هي مسؤولية القيادة التي كان يفترض أن تتحلى بالحكمة والقدرة على تقدير موازين القوى، لكنها جرّت كوادرها إلى الجحيم. كان من الغباء أن تقدم حماس على هذه العملية دون حساب دقيق للواقع العسكري والسياسي، والأشد غباءً أن تظن أنّ حلفاءها سيدافعون عنها، والأكثر غباءً أن تتوهم قدرتها على خداع شعبها إلى الأبد. لكن الحقيقة سرعان ما ظهرت، وأدرك كل غزّي، أنّ ما قامت به الحركة لم يكن سوى تهور وانتحار وأذى شامل.
وما ترتب على هذا التهور لم يكن سوى سلسلة من الخسائر الفادحة التي فاقت كل تصور، لتضع غزة أمام أثمان باهظة بلا أيّ مكاسب حقيقية. الخسارة التي تكبّدها الشعب الفلسطيني في غزة فاقت أيّ مكسب مزعوم. فما فائدة كسر شوكة الاحتلال أو خرق نظرية الردع، إذا كان الثمن آلاف الشهداء والجرحى والإعاقات، وتشريد الأسر، وانتشار الفقر، وهدم البيوت والمؤسسات، وتدمير القطاعات الحيوية والبنى التحتية، وإعادة الحياة في غزة إلى العصر الحجري أو ما قبله؟ فالمنطق السياسي البارد يقول إنّ ميزان القوى لم يتغيّر قيد أنملة، في حين أنّ وجدان الشعب المنكوب يعلن بمرارة أنّ الثمن تجاوز قدرة الشعب على الاحتمال. ما الفائدة حين يفقد الشعب إحساسه بالأمان بلا أيّ عائد سياسي أو معنوي يعوّض هذا الفقد!
وفي خضم هذا المشهد، وبعد أن تكشّفت الخسائر الفادحة بلا أيّ مكاسب حقيقية، برزت القيادة لتكشف عن وجهها الحقيقي، خرج خالد مشعل ليكشف عن وجهه ووجه الحركة، وعن النقاب الذي طالما تسترت به قيادة حماس. لقد ظهر بوضوح أنّ الحركة بعيدة عن المشروع الوطني وعن مصالح شعبها منذ تأسيسها. أين هو التحرير الذي وعدت به؟ أين هم الأسرى الذين زاد الاحتلال بتعذيبهم بأساليب لم يكن يمارسها بهذه الحدّة قبل السابع من أكتوبر؟ أين كرامة شعبنا الذي أصبح يتنقل على الدواب إن استطاع دفع أجرة الحمار؟ أين الحرية والكرامة حين يبحث الأطفال في النفايات عن الطعام؟ أين الشرف حين تعجز النساء والفتيات عن ستر أنفسهن بأبسط احتياجاتهن الإنسانية؟
وهكذا، لم يعد هناك مجال للشك في أنّ ما جرى لم يكن مقاومة واعية، بل مقامرة بمصير شعب بأكمله. إنّ السابع من أكتوبر لم يكن انتصاراً ولا خطوة على طريق التحرير، بل مقامرة متهورة دفعت غزة ثمنها دماً ودماراً وفقراً وتشريداً وأمراضاً. لقد أثبتت قيادة حماس، وعلى رأسها خالد مشعل، أنّها بعيدة عن المشروع الوطني، ولا تملك سوى شعارات فارغة تقود شعبها إلى الهلاك.
والنتيجة أنّ شعبنا خسر الأمان النسبي والكرامة، دون أن يربح التحرير أو الحرية. إنها ليست مقاومة، بل مقامرة بمصير وطن بأكمله، مقامرة بالوجود ذاته.
