كتب سلطان الحطاب –
لعل الأمويين هم أكثر الخلفاء في تاريخ الأسلام، اهتماماً بالقدس وحرصا عليها وعلى مكانتها الدينية، فقد اتخذوها عاصمة روحية لهم وللأمة في الصراع بين الشام والحجاز، حين رفض عبد الله بن الزبير في مكة البيعة لهم
واتخاذ القدس عاصمة روحية في حين كانت دمشق هي العاصمة الادارية ومركز الحكم له دلالات عميقة، إذ أن الأمويين أرادوا التمسك بالشرعية الدينية لحكمهم المتنازع عليه مع علي بن ابي طالب، قبل وفاته ومع خلفه، حتى إذا جاء عام الجماعة 41 للهجرة ه، كما اسماه معاوية وتنازل الحسن بن علي عن الخلافة.
دعى معاوية أهل الشام وزعماءها ووجهاءها وكل ذي رأي فيها القدوم الى القدس لتقديم البيعة له، وقد فعل وكانت نفسه قد راودته أن ينقل اليها مقر خلافته لولا أن بطانته نصحته أن يبقي الخلافة في دمشق، لأن المدينة المقدسة لا بد أن تبقى للعبادة وأن تحتفظ بمكانتها بعيداً عن أي مواقف أو صراعات سياسية آنذاك.
ومنذ تلك اللحظة اهتم الأمويون بالقدس وخاصة زمن الخليفة عبد الملك بن مروان الذي أراد ترجمة حرصه على القدس بأن أمر ببناءمسجد قبة الصخرة فيها ومساجد كالمرواني التابع للمسجد الأقصى ولم يعرف مثلها في تاريخ المسلمين شهرة وجعل من ذلك في القدس محجاً للمسلمين،حين تفاقم الصراع مع ابن الزبير في الحجاز.
وحتى يبرر عبد الملك رغبته، أمر ببناء مسجد الصخرة، ليشجع الحج والزيارة الى القدس بديلا موقتا عن مكة ورغب في ذلك لأن حركة ابن الزبير، كانت تأخذ بيعة الحجيج، وقد جاء هذا التحول عام 64 هجرية بعد إعلان عبد الله بن الزبير نفسه اميرا للمومنين في مكة.
وفي خضم الصراع بنى عبد الملك،قبة الصخرة عام 72 هجرية وجذب الناس اليها حتى لا يضطروا للذهاب الى مكة، واستمر ذلك لسبع سنوات،إلى أن ارسل الأمويون حملة عسكرية بقيادة الحجاج بن يوسف، فقتلت ابن الزبير وبعدها عاد الحجيج يتدفق الى مكة، وكانت تلك مرحلة مؤقتة لزيارة القدس لسبب ظروف سياسية وأمنية.
ولم يقتصر اهتمام الأمويين وخاصة المروانيين،منهم بالقدس فقط، بل أهتموا بمدن أخرى واتخذوا من مدينة “الرملة” التي أسسوها على يد الخليفة سليمان بن عبد الملك، عام 715 هجرية لتصبح عاصمة للجيش الأموي، “جند فلسطين” بدل مدينة اللد، وبنى سليمان فيها المسجد الجامع، والمئذنة البيضاء ودار الامارة وشبكات مياه واسواق، وجعلها انجازاً عمرانياً أموياً مميزاً، ورغم نقل جند فلسطين من اللد الى الرملة، إلا أن الاهتمام وخاصة التجاري باللد ظل قائماً.
ومن المدن الأخرى كذلك التي اعطاها الأمويون اهتمامهم الأقصى غزة، وكانت عندهم ذات مكانة تجارية ودينية، فهي مكان ضريح هاشم بن عبد مناف، جد النبيّ، وهي كذلك محطة تجارية هامة على طريق التجارة بين الشام ومصر، ولذا حافظ الأمويون على عمرانها وزادوا عليه وميزوه.
واهتموا كذلك بقيسارية (ماريتما) واستعملوها كمركز اداري اقليمي واسع وحافظوا على تحصيناتها التي اقامها البيزنطيون قبل فتح فلسطين.
وكانوا عمرّوا ايضا ميناء عكا واهتموا به، وجعلوا فيه قاعدة عسكرية وبناء سفن للدفاع عن سواحل الشام.
كذلك اهتموا بمدينة اريحا التي اقام فيها شقيق عبد الملك بن مروان، وهو هشام بن عبد الملك، والذي بنى فيها قصره الموجود حتى اليوم، قصر هشام، وقد جاءت الاقامة برغبة من عبد الملك، الذي أوصى أخوانه بالاقامة في فلسطين، فكانت اقامة مسلمة بن عبد الملك في الرملة لإدارة كل فلسطين فكانت العاصمة الادارية واقام هشام في اريحا التي اتخذت كمدينة مركزية للزراعة والاقتصاد والترفيه.
وجاء الاهتمام باريحا لقربها من نهر الأردن والربط بين دمشق وفلسطين ومصر، فكانت نقطة تنقل عسكري وتجاري وبوابة دخول فلسطين من الشمال، واهتم الأمويون بالزراعة فيها وخاصة التمور والخضروات والفواكة، وكانت مركز امداد للقدس ودمشق.
وبعد مرحلة بني أمية وفي أواخر الدولة العثمانية، كان قد أصبح يوسف ضياء الدين الخالدي رئيساً لبلدية القدس في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين وطالب أن تكون القدس عاصمة مطلقة لفلسطين، وعمل على ذلك في اعادة انتاج المدينة لهذا الغرض، حين رأى الأطماع الصهيونية تبدأ بالمذكرات والحديث في المراسلات، وبدأ دفاعه عن القدس، وجمع أعيان القدس وبصرهم بالخطر المحدق بالمدينة وفي عام 1899، كتب رسالة الى الحاخام الفرنسي صادق كاهن، عبر عن قلقه مما تنتظره القدس من خطر الهجرة الى فلسطين بوضعها في دائرة اهتمام الحركة الصهيونية، وحذر من ذلك، وقال “أن الشعب الفلسطيني له حقوق في ارضه وأن تهجيره غير مقبول وذلك أن هناك سكان اصليين في فلسطين لا يمكن تجاهلهم أو ازاحتهم من ارضهم، وقد كتب الخالدي يؤكد على حقوق الشعب الفلسطيني ودفاعاً عن القدس، (القدس ليست مجرد مدينة بل مركز ديني تاريخي، ومن واجب الدولة العثمانية حماية قدسيتها وسكانها”.
ورغم اتصالات الخالدي بالقناصل والبعثات الاجنبية التي حلت في فلسطين، اواخر الدولة العثمانية لتاكيد عروبة القدس واسلاميتها وانها عاصمة فلسطين، الاّ أن الموجة العاتية للحركة الصهيونية في الهجرة والاستيلاء على الأراضي كانت قد مهدت لوعد بلفور عام 1917، في حين كانت الاستفادة واضحة من اتفاقيات سايكس بيكو، عام 1916 التي قسمت المنطقة.
وبقي الأمر كذلك وغابت القدس باحتلال الجنرال اللنبي، الاّ أنها عاودت حضورها كمدينة مقدسة، باهتمام الهاشميين بها ورعايتهم لها منذ بدايات الصراع حولها، فقد زارها الشريف الحسين بن علي، وعمل من أجلها وتبرع لها بالإعمار الأول عند زيارة وفد من أعيانها لمقره في مكة وجاهد في سبيلها ودفن في المسجد الأقصى قبالة قبة الصخرة، وما زال ضريحه هناك شاهدا على الوصاية الهاشمية على القدس.
أراد الهاشميون تعزيز شرعية حكمهم الديني، وعملوا من أجل ذلك في بداية نزاعات تستهدف القدس ورعايتها، وقد ورث الملك المؤسس هذه المهمة في اعمار سجل باسمه، كما جاء الملك الحسين، طيب الله ثراه، ليعطي القدس أهمية كبيرة في اعمارها لأكثر من مرة وتبرعه بتذهيب قبة الصخرة وتوظيف الأ ئئمة والسدنة وتمويل الإعمار والأوقاف وادارتها، وقد تولى بعد ذلك الملك عبد الله الثاني، الذي وقع مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، اتفاقية استمرار الرعاية الهاشمية في اذار عام 2012، وما زال الاهتمام بالمقدسات الاسلامية والمسيحية قائماً، خاصة اعمار القبر المقدس في القدس من جانب الملك عبد الله الثاني الذي تبرع لذلك وتم انجاز ذلك وإعمار كنائس أخرى.
