بقلم الكاتبة والشاعرة والإعلامية التونسية ريم القمري –
يأتي إبداع الشاعرة أم الزين بن شيخة في ديوانها الجديد “أوزّع ظلّي على العائدين ” ليضع القارئ أمام كتابة شعرية متميزة، تُشكّل ذاتها من التوتر والتقصي، وتُحلّل مسائل الانتماء والوجود والحلم، بلغة مضطربة تتأرجح بين الإفصاح الذاتي والاهتمام الإنساني الشامل. العنوان نفسه، بما يحمله من دلالات رمزية، يفتح الباب على مصراعيه للتأويل: توزيع الظل هو فعل مشاركة للحياة، ولكنه في الوقت نفسه علامة على ضعف الكائن الذي لا يملك سوى ظله ليقدمه للآخرين.
منذ البدء، يجد القارئ نفسه أمام قصائد تستمد قوتها من جدلية الحضور والغياب، ومن الانكسارات البسيطة والكبيرة التي تُراكمها التجربة الإنسانية. فالشاعرة لا تُدوّن قصائد مُناسبة، بل نصوصًا تُشبه مرآة داخلية تنعكس عليها صورة الذات وهي تتفتت بين المنافي المكانية والروحية.

#image_title
الذات في مواجهة الكون
تتوزع محتويات الديوان بين هموم الذات وقلقها الوجودي، وبين استحضار رموز ثقافية وحضارية تؤكد على ترسخ النص في محيطه. فالقصائد تُؤسس عالمًا شعريًا يسكنه الشوق والاغتراب، عالمًا تُحاصر فيه الذات بأسئلة لا تهدأ: من أنا؟ وأين أجد مكاني في هذا الوجود؟
يتكرر حضور ثنائية الحلم/الخيبة، البيت/المنفى، والحب/الفقد، وكأنها أعمدة أساسية لتجربة الشاعرة. ففي قصائد عديدة نلحظ محاولة لترميم الذات عبر الذاكرة، واستدعاء صور الطفولة والحنين إلى الأماكن الأولى. غير أن هذا الشوق لا ينفصل عن إدراك عميق بالخيبة وبأن العالم المحيط بالكائن ليس سوى مسرح للغياب.
الأسلوب: لغة زاخرة بالصور
القصائد مُسطّرة بلغة مُنفتحة على التدفق، لغة تعتمد التكرار والتموج الداخلي لتوليد إيقاع فريد. فاللغة هنا ليست مجرد أداة للتعبير، بل فضاء ينمو فيه النص ويُعيد تشكيل الواقع.
تستحوذ الصور الشعرية على موقع محوري:
* الظل يتكرر كرمز للوجود الواهن، وللمحاولة الدائمة للتماهي مع الآخر.
* الريح والبحر والطرق تحضر كعناصر دائمة الحركة، وكأن الذات لا تجد استقرارًا لها إلا في الترحال المستمر.
* الورد والياسمين يتحولان إلى رموز للحب المجروح، إلى حدّ أن العطر نفسه يغدو جرحًا دامياً.
الجدير بالذكر أن هذه الصور لا تأتي لتجميل النص، بل لتكثيف معانيه: كل صورة تُعيدنا إلى سؤال الذات في مواجهة العالم.
البُعد الفكري والجمالي
على الرغم من الطابع الغنائي للنصوص، فإنها تنطوي على بُعد فكري واضح. فالشاعرة تُسطّر من موقع الفيلسوفة التي خبرت أسئلة الفكر، لكنها تختار أن تُصوغها هنا في لغة شعرية نابضة. من ثمّ، نلحظ خلف كل قصيدة تأملاً في معنى الوجود والزمن والموت والذاكرة.
يظهر هذا البُعد خاصة في استحضار الرموز الكونية (الظل، البحر، الريح) التي تُحيل إلى أسئلة كبرى تتجاوز التجربة الشخصية. وهنا يتقاطع الشعري بالفلسفي، ليقدم النص قراءة شعرية للكون، وليس مجرد تسجيل لنبض ذاتي.
الفلسفة في خدمة الشعر
لا يمكن تناول هذا الديوان دون الالتفات إلى الخلفية الفلسفية للشاعرة، فهي فيلسوفة وأكاديمية تُسطّر في الفكر، وتنشر أبحاثًا ودراسات فلسفية وروايات، ما يمنح تجربتها الشعرية عمقًا استثنائياً. يظهر هذا النفس الفلسفي في قصائدها عبر الأسئلة المفتوحة واللغة المليئة بالتأمل، حيث يتحول الشعر إلى فضاء للتفكير لا يقل أهمية عن البحث الأكاديمي، ولكنه أكثر سعة وأقرب إلى وجدان القارئ.
إن استدعاء مفردات مثل الزمن، الذاكرة، الغياب، والوجود، ليس وليد انفعال شعوري فحسب، بل هو امتداد لمسار فلسفي يشتغل على الأسئلة ذاتها، ولكن بلغة أخرى. بهذا المعنى، يمثل الديوان جسرًا بين الفلسفة والشعر: الأولى تمنحه العمق والتساؤل، والثانية تمنحه الإيقاع والصورة والقدرة على ملامسة الذات والآخر في آن واحد.
رمزية الغلاف: بين الإفصاح الذاتي والبُعد الرمزي
يُكمل غلاف الديوان عالم النصوص، إذ اختارت الشاعرة أن تضع صورتها في المقدمة، في إشارة إلى جرأة الإفصاح وكسر المسافة التقليدية بين الكاتب ونصّه. فالصورة ليست مجرد عنصر تزييني، بل إعلان عن حضور الذات كامرأة شاعرة تُعرّف نفسها من خلال ملامحها كما من خلال كلماتها.
وإلى جانب ذلك، تحضر الكوفية الفلسطينية كرمز للهوية والمقاومة، لتفتح النصوص على بُعد قومي وإنساني يتجاوز التجربة الفردية. هذا التداخل بين الخاص والعام ينسجم مع طبيعة القصائد، حيث يلتقي الجرح الذاتي بالاهتمام الإنساني العام، ويتحول الغلاف إلى مدخل بصري يُهيئ القارئ للدخول إلى عالم شعري منشغل بالحرية والانتماء والبحث عن مكان للذات في خريطة العالم.
خصوصية التجربة
ما يمنح هذا الديوان تفرده ليس فقط عمق الصور واضطراب اللغة، بل أيضًا قدرته على الجمع بين الإفصاح الأنثوي والاهتمام الإنساني. فالشاعرة تُسطّر من موقع المرأة، ولكن قصائدها تتجاوز حدود التجربة الفردية لتصير صوتًا جامعًا للجرح الإنساني.
إنها كتابة تُؤمن بأن الشعر فعل مقاومة ضد العدم، وبأن الكلمات قادرة على إعادة بناء الذات ولو على أنقاضها. في هذا المعنى، يبدو توزيع الظل فعلاً شعريًا بامتياز: مشاركة للآخر في لحظة الظلام، وإصرار على جعل الكلمة مأوى مؤقتًا للكائن.
إن ديوان “أوزّع ظلّي على العائدين ” يقدم نصوصًا تنبض بالتوتر والتقصي، وتُعيد إلى الشعر وظيفته الأصلية: أن يكون سؤالًا مفتوحًا، ومغامرة في المجهول. فالشاعرة أم الزين بن شيخة لا تُقدم للقارئ إجابات جاهزة، بل تتركه يتقاسم معها حيرتها وقلقها، في رحلة لغوية وجمالية تجعل من كل قصيدة مساحة للتأمل والاختلاف.
إنها كتابة تستمد قوتها من صدقها ومن انفتاحها على الآخر، كتابة تُثبت أن الشعر ما زال قادرًا على أن يكون ملجأ في زمن الخيبات.
