لم يعد تراجع “حزب الله” إلى شمال نهر الليطاني مجرد انكسار عسكري أو “إعادة تموضع” كما يحلو لمنظريه تصويره، بل هو ارتطام بنيوي لمشروع استثمرت فيه طهران عقوداً لصناعة “فيتو” جغرافي على حدود إسرائيل. ومع نهاية عام 2025، لم تعد اللغة تحتمل التورية؛ فقد انتهى زمن المساومات والمناورات الرمادية، وبدأ عصر “الإملاءات الجيوسياسية” الذي تفرضه قوى “الهندسة الترامبية” الجديدة، حيث لا مكان للفوضى الميليشياوية في خرائط “الشرق الأوسط الرقمي”.
يفرض “العصر الإسرائيلي” نفسه اليوم كواقع موضوعي، متجاوزاً الحدود الورقية لصالح “المساحات الوظيفية”. ما يطرحه العقل الأمريكي الجديد، بالتنسيق مع تل أبيب، يتخطى مفهوم “المنطقة العازلة” نحو عملية جراحية لاستئصال إرث “التثوير الإيراني”؛ ذلك الإرث الذي تعمّد طوال عقود عسكرة المجتمع الجنوبي وتحويل القرى والبيوت إلى منصات صواريخ وخنادق متقدمة، مختطفاً الهوية اللبنانية لصالح حالة استنفار أيديولوجي تخدم مركز القرار في طهران.
اليوم، تبرز محاولة زرع هوية “الجنوب المستقر” عبر مشروع دمج “جبل عامل” بمدى حيوي يمتد لجنوب سوريا، في عملية تذويب سياسي لتحويل هذه الجغرافيا إلى منطقة خاضعة لـ سيادة تكنولوجية عابرة للحدود، وضمن “سلام قسري” تفرضه القوة وتؤطره المصالح الاقتصادية التي تضع حداً لزمن المغامرات العابرة للحدود.
يتكامل هذا الانقلاب الجذري مع نموذج “سوريا الجديدة” الواعد بقيادة أحمد الشرع، الذي أثبت براعة استثنائية في نقل بلاده من ضفة “الممانعة” المتهالكة إلى ضفة الواقعية السياسية والاندماج في النظام الإقليمي الجديد. وضمن هذا التناغم، يُعاد ربط الشمال اللبناني بعمقه السوري المتجدد كمسار طبيعي للاستقرار، بينما يُعاد صياغة واقع الجنوب ليصبح “شريكاً أمنياً” في منظومة الاستقرار الإقليمية. في هذا المشهد، يتحدد دور الجيش اللبناني كـ “ناظم مرور أمني”، بمهمة واحدة: تطهير الأرض من بقايا الثكنة الإيرانية وتحويلها إلى خطوط تجارة تحت مجهر الرقابة الدولية.
سقط “وهم الردع” تحت ضربات التكنولوجيا وتلاشت أسطورة “الأرض التي لا تُقهر” أمام واقعية القوة المفرطة، لينتصب العصر الإسرائيلي على أنقاض توازنات “الميليشيا” البائدة، واضعاً المنطقة أمام حقيقة عارية: الهوية التي تُبنى على السلاح تتبخر بتبخره.
لا يتعلق السؤال اليوم بقدرة الحزب على العودة، فهذه الصفحة طويت تاريخياً، بل يكمن الرهان في نجاح هذه “الهندسة القسرية” في ابتلاع ديموغرافيا تم استخدامها كوقود لمشروع إقليمي فاشل. فهل تنجح إسرائيل في تطبيع جغرافيا الجنوب وتحويلها إلى جزء من “فردوسها التقني”، أم يظل ثمن هذا الاستقرار محكوماً بقنبلة موقوتة من سكان يجدون أنفسهم اليوم قرباناً على مذبح التسويات الكبرى؟
