عروبة الإخباري –
تتردد في الأوساط الفلسطينية، وبين المتابعين للشأن العام، مقولةٌ تبدو وكأنها حكمةٌ سائدة: إن الرئيس محمود عباس (أبو مازن) هو العقبة الأساسية أمام استنهاض الحالة الوطنية، وهو المانع لإجراء الانتخابات وتجديد الطبقة السياسية وتمتين مؤسسات منظمة التحرير.
هذا الرأي ليس حكراً على المعارضين، بل يتجاوزهم ليصل إلى دوائر داخل حركته “فتح” نفسها، وإلى ما يُعرف بـ”بطانة الرئيس”.
فالجمود الذي تعيشه الساحة، وغياب الأفق الديمقراطي، يوجّه أصابع الاتهام مباشرةً نحو مركز القرار والسلطة.
غير أن قراءةً أكثر تعمقاً لهذا المشهد، كما يطرحها الصديق الدكتور إبراهيم أبراش، تفتح باباً على سؤال أكثر إرباكاً: ماذا لو كانت فرصة تحقيق ذلك التجديد المنشود أضعف بعد رحيل الرئيس عنها في ظل وجوده؟
بمعنى آخر، هل نحن أمام “عقبة” قابلة للإزالة بمجرد تغيير الشخص، أم أمام “حاجز” أخير يحمي، رغم كل علاته، من انهيارٍ أوسع قد يجعل من أي عملية تجديد ضرباً من المستحيل؟
إن تحليل هذه المعضلة يفرض الخروج من دائرة التركيز على الشخص إلى رحابة تحليل السياق البنيوي المحيط.
فالمأزق الفلسطيني الراهن هو نتاج تفاعل معطيات بالغة التعقيد:
أولاً: الانقسام المؤسِّس: لقد تحوّل الانقسام الجغرافي والسياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة إلى واقع مؤسَّس، له سلطاته وأجهزته وولاءاته.
في هذا السياق، تصبح أي انتخابات عامة مجازفة كبرى، إذ تفتقر إلى الإجماع الوطني على قواعدها، كما أن نتائجها قد تُنكر من قبل الطرف الآخر، مما يهدد بتعميق الشرخ بدلاً من رأب الصدع.
ثانياً: الاحتلال كفاعل رئيسي: لا يمكن فصل أي معادلة سياسية داخلية عن حقيقة الاحتلال الإسرائيلي الذي يتحكم في مفاصل الحياة.
فهو يمنع العمل الانتخابي في القدس، ويقيد حركة المرشحين والناخبين، ويمارس الاعتقال السياسي، ويضع شروطاً أمنية قد تُفقد العملية الانتخابية أي معنى للسيادة والاختيار الحر.
ثالثاً: أزمة التأسيس الداخلي لـ”فتح”: تعاني الحركة الأم من انقسامات حادة حول قيادتها ومستقبلها. عجزها عن عقد مؤتمرها الثامن، وغياب آلية واضحة ومتفق عليها لتداول القيادة داخلياً، هو مؤشر على أزمة أعمق في المأسسة. إذا فشلت الحركة في تجديد نفسها، فكيف يمكن أن تكون أداة لتجديد النظام الوطني؟
رابعاً: البيئة الإقليمية والدولية: تفضل العديد من الأطراف الفاعلة إقليمياً ودولياً التعامل مع قيادة معروفة، حتى لو كانت ضعيفة، خشية من المجهول الذي قد يأتي به التغيير.
هذا الواقع يمنح النظام القائم نوعاً من “الشرعية الخارجية” أو شبكة أمان، حتى في لحظات ضعفه الداخلي البين.
هذه العوامل مجتمعة تصنع قفصاً حديدياً يصعب كسره ، ومن هذا المنظور، فإن رحيل الرئيس عباس في غياب توافق وطني ومؤسسي مسبق على قواعد المرحلة التالية، قد لا يكون لحظة تحرر، بل لحظة انفلات.
قد يفتح الباب لصراع مرير على الخلافة داخل “فتح” وبين الفصائل، حيث تغيب قواعد اللعبة الواضحة، وتتدخل الحسابات الشخصية والأجندات الخارجية بعنف، وتصبح الأولوية هي السيطرة على المقاعد لا تفعيل المؤسسات.
الاستنتاج المُقلق، إذن، هو أن أزمة النظام السياسي الفلسطيني أعمق من شخص القائد.
إنها أزمة سيادة ناقصة، وانقسام بنيوي، وغياب آليات تداول سلمي للمسؤولية.
الرئيس الحالي قد يكون تجسيداً لهذه الأزمة وعاملاً في استمرارها، لكن غيابه المفاجئ، دون استعداد، قد يحول الأزمة إلى فوضى عارمة.
التحدي الحقيقي أمام القوى الفلسطينية الفاعلة، إذاً، هو كيفية الشروع، منذ الآن، في بناء الحد الأدنى من التوافق حول “قواعد اللعبة” لما بعد المرحلة الراهنة. توافق على آلية انتقالية، وعلى طريقة اتخاذ القرار، وعلى إطار جامع يمنع الانهيار.
فقط عبر هذه المأسسة التي تتجاوز الأفراد، يمكن أن يصبح أي تغيير في القيادة خطوةً نحو تجديد الشرعية، وليس شرارة لصراع قد يهدر ما تبقى من إنجازات الكيان السياسي الفلسطيني.
