قبل وصول قداسة البابا لاون الرابع عشر وبعده، استمرت حملة التهديد والوعيد التي نقلها موفدون دوليون من اسرائيل وكرّرها لبنانيون، مؤكدين ان الحرب الكبيرة آتية وستشمل كل شيئ، وأن الدولة متباطئة في سحب سلاح حزب الله، وأن الاحتلال موجود وباق، طالما ان هذه المهمة لم تنجز.
أولاً، لا حاجة الى هذه الرسائل حتى لو كان بعض حامليها من الخارج صادقاً، طالما ان اسرائيل تطلقها يومياً وتترجم تهديداتها وتؤكد ان لديها بنك أهداف لن يتوقف عدوانها قبل تحقيقه وتهاجم الدولة.
ثانياً، إذا كان ثمة بين الرسل والموفدين – كي لا نعمم – من يريد لعب دور وإثبات حضور ومنافسة آخرين فهم مشكورون من حيث المبدأ ولو كان بعضهم يستحضر حركة أو ” مبادرة ” لنيل الرضى الأميركي والبقاء في دائرته أو لحفظ موقع أو حماية ما تبقى لديه في ظل الاستباحة الاسرائيلية الكاملة، وتحقيق بعض المكاسب الشكلية الظرفية، ومناكفة عرب آخرين، فإن كل ذلك لا مكان له في دائرة اللعبة الاسرائيلية وعلى مسرحها. اسرائيل لا تحترم أحداً ولا تحمي أحداً ولا تلتزم باتفاق او معاهدة، كما تطلق تهديداتها ضد لبنان، فهي لا تتوقف عن تكرار التزامها بمشروعها الكبير للمنطقة بأسرها ومطامعها وحدودها وبالتالي لن يكون أحد بمنأى عن نتائج عدوانها المفتوح وتدعمها اميركا بلا حدود.
ثالثاً، لأن اللعبة على أرضنا والثمن يدفعه كل اللبنانيين، حتى لو راهن بعض منهم على اسرائيل بطريقة أو بأخرى لتحقيق ما كانوا يحلمون به منذ أربعين عاماً، أو لتصفية فريق والتخلّص منه أياً تكن النتائج، فليس في ذلك اي حكمة أو وعي وإدراك ومسؤولية بعد 50 عاماً من التجارب الأكثر من كافية ليتعلّم الجميع منها في مرحلة تهدّد فيها حدود وثروات واستقرار وإمكانات المنطقة وتؤشر الى حال من الفوضى والتوترات الدينية، المذهبية، الطائفية ونتائجها كارثية.
إن لبنان يقع تحت ضغط اسرائيلي – أميركي – إيراني ” ولغط ” عربي بعضه مفتعل ومقصود. اسرائيل ماضية فيما تريد من غزة الى الضفة ولبنان وسوريا والأردن ومصر والعراق واليمن وصولاً الى إيران ولا تريد وساطات واتفاقات وهي تستعد لحرب جديدة مع إيران. كل من الطرفين يعتبر أنه رمّم بناه العسكرية وعالج الثغرات التي واجهها في الجولة الأولى من الحرب. وإذا كانت إيران تريد اتفاقاً مع اميركا، والرئيس ترامب رحّب بذلك وقال نحن نريده فإن اسرائيل لن توقف عملها لإسقاط أي محاولة من هذا النوع وهذا تاريخها وسجلها حافل في قتل المفاوضين والمفاوضات وهي تتصرف الآن على أساس أنها أمام فرصة تاريخية لن تتكرّر فلماذا لا تستثمرها حتى النهاية ولو على مراحل ؟ أخذت من أميركا ما أخذت، ومن بعض العرب أيضاً، وهي ” تمنّنهم ” لأنها خلصتهم من أعدائهم. وإيران تقول أنها لا تتدخل بالشأن اللبناني ومسؤولوها يطلقون يومياً تصريحات مناقضة لذلك. وثمة لبنانيون يراهنون عليها وآخرون يراهنون على الطرف الآخر. إيران أثناء العدوان على لبنان ” وعدت ” بأنها ستتدخل إذا أزدادت وتيرة الضغط والاستهدافات. هي لم تتدخل في غزة ولم تتدخل في لبنان. خرجت من سوريا بعد سقوط نظامها، وبات نظامها وأمنها مهددين وفقدت أوراقاً وتحاصر حركتها في لبنان من كل الاتجاهات. وثمة عرب يتحركون في الوقت ” الغلط ” في محاولة لمداراتها في حسابات الجيرة المقلقة، والحدود والمصالح المهددة هنا وهناك لكن لا أوراق بين ايديهم وإذا وجد بعض منها فلا يستخدم كما يجب بسبب الحسابات ذاتها.
كل هذا يدفع ثمنه في لبنان الذي لم يقدّم له أي شيئ. تتهم الدولة بل تدان من الخارج والداخل ولا أحد يحمّل اسرائيل مسؤولية ما فعلته بعد قرار وقف الأعمال العدائية. لا قيمة لاتفاقات ورعايات وقرارات أممية إلا عندما تأتي لمصلحة أميركا واسرائيل كما حصل مؤخراً والكل متهم ومدان من قبلهما إذا لم يقدم على خدمة أهدافهما
حسناً فعلت قيادة الجيش بدعوة الاعلاميين الى لقاء مفتوح في مقر قيادة القطاع الجنوبي، ووضعت أمامهم كل المعطيات ونتائج ما تحقق في الجنوب لتنفيذ قرارات الحكومة بحصر السلاح بيد الدولة. قيل كل شيئ بالتفصيل وكشف الجيش زيف ادعاءات اسرائيل وأيدت ” اليونيفيل ” معلوماته الموثقة، وهي معلومات لم تكن خافية عن الأميركيين وبالتالي الاسرائيليين. الجيش كان يطلع الأميركيين رعاة قرار وقف الأعمال العدائية وأصحاب الدور الأساس في لجنة المراقبة الميكانيزم.
وحسناً فعل غبطة البطريرك الراعي عندما أطلق موقفاً وطنياً شجاعاً قبل وصول قداسة البابا الى بيروت وبعد مبادرة رئيس الجمهورية بمناسبة عيد الاستقلال، فقال : ” … اسرائيل تريد كل لبنان ولها مطامع بمياهنا وعلينا أن نتصرف حيال ذلك “. ( بعد أن خرج من يقول : ” ان ليس لاسرائيل مطامع ونحن نعتدي عليها “) وأضاف : ” قرار حصر السلاح يجب أن ينفذ وعلى اسرائيل أن تنسحب. وإيران ترسل السلاح والمال. المسألة ليست قراراً فورياً ولا أمراً ينفذ بمجرد القول. ليست ” كوني فكانت ” الحزب لبناني وشهداؤه لبنانيون “. ودعا الى التمديد للقوات الدولية والى ” التفاوض المباشر مع اسرائيل عبر الميكانيزم من أجل تحقيق السلام وليس من أجل التطبيع “.
قراءة سياسية واعية وطنية يبنى عليها للاستفادة من المبادئ المشتركة التي يتلاقى حولها اللبنانيون ليكرسوا اتفاقاً بينهم هو الأساس في مواجهة كل التحديات انطلاقاً من دعوته الى ” المصالحة “.
من بعبدا الى بكركي، موقفان لهما رمزيتهما، رسالتان هامتان للداخل والخارج ينبغي الاهتمام بهما واعتبارهما قاعدة متينة للمصالحة بين اللبنانيين. حزب الله معني ومطالب بأخذ هذين الموقفين الاستراتيجيين بعين الاعتبار والتعامل معهما بجدية بعيداً عن التصريحات الانفعالية وتجنّب سوء التقدير والتقرير في المقاربات في قراءة المشهدين الداخلي والخارجي وملاقاة الشريك في الوطن بشجاعة القوي أيضاً. وبعض الشركاء مدعو الى إعادة ضبط خطابه السياسي وأدائه والابتعاد عن التهوّر ولغة الكراهية والحقد انسجاماً مع الموقفين المذكورين والمطحنة ” شغّالة ” منذ خمسين عاماً، لم تتوقف وقد طحنت كبارنا وخيراتنا ومؤسساتنا أفلم يأتي الوقت لوقفها والذهاب الى المصالحة الحقيقية التي تبدأ أولاً مع الذات بمراجعة شجاعة ثم مع الآخر؟
إن لبنان يُقرأ من الخارج ومن لبنان يُقرأ كل الخارج. لبنان مدرسة تعلّم من يفهم ويحترف السياسة في لبنان يفهم ما يجري حوله وأبعد. المشكلة أن ثمة من لا يريدون أن يتعلموا. يسمعون ما يستهويهم، يصدّقون، يقرأون خطأ، يقرّرون خطأ حسب أمنياتهم.
إسمعوا بعبدا وبكركي.
