وسط عاصفة من التصفيق، وحالة من الإجماع النادر في الحياة السياسية الفلسطينية، المسكونة تاريخيا بالخلافات التقليدية، اتخذ المجلس المركزي الفلسطيني، في دورة انعقاده الـ27، قراراً بوقف التنسيق الأمني بأشكاله كافة مع سلطة الاحتلال، وتحميلها مسؤولياتها إزاء دولة فلسطين المحتلة، ما بدا كاستجابة لضغوط فصائلية ملحّة، وتلبية لمطالب شعبية تدعو إلى وضع نقطة كبيرة في آخر سطر صفحة التنسيق الطويلة، طول عمر السلطة الفلسطينية.
ومع أن القرار لقي ترحيباً فورياً من جانب سائر القوى والفصائل، بما في ذلك حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، إلا أن الشكوك ظلت ترافق بيانات الترحيب هذه؛ إما جراء ضعف ثقتها بالقيادة التي تتولى زمام المسؤولية العامة، وإما بفعل إدراك هذه القوى لجسامة تبعات قرار نفض اليد من اتفاق تعاقدي مع إسرائيل، كان بمثابة حجر الزاوية الذي قامت عليه أول بنية تأسيسية لأول سلطة فلسطينية معترف بها.
وأحسب أن هذه الشكوك كانت في محلها، وأن المتحفظين على جدية إنفاذ القرار كان لديهم ما يبرر اتخاذ موقف الترقب والانتظار، الذي قد يطول لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر، حبلى بكل الاحتمالات والتوقعات؛ أي إلى أن يتم عقد الدورة المقبلة للمجلس المركزي، المقررة في حزيران (يونيو) المقبل، وفق قرار المجلس نفسه، والقاضي بعقد دوراته كل ثلاثة أشهر، على أن تقوم اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، خلال الفترة بين دورتي الانعقاد هذه، بمتابعة القرارات المتخذة، وعلى رأسها قرار وقف التنسيق الأمني.
ومن المرجح أن القوة الدافعة الرئيسة وراء هذا القرار المثير للهواجس المشروعة، لم تكن تلك الضغوط الفصائلية، وإنما كانت القيادة الفلسطينية التي رغبت في أن تعيد إملاء نفسها على المشهد الطارد لها، وأن تسترد اعتبارها كطرف قادر على خلط الأوراق المنسلّة من بين أيديها، وأن تضع في جيبها ورقة ناجعة، تكسر بها الرتابة المميتة لقواعد اللعبة التي توقفت عن العمل منذ فترة؛ أي رفع درجة حرارة الأزمة الى ما فوق مستوى الصفر بكثير، ولكن دون درجة الغليان التي تعني في واقع الأمر الانجرار إلى اللعب في الملعب الإسرائيلي المفضل لدى المتبتلين في محراب القوة.
بكلام آخر، فإن اتخاذ قرار من جانب السلطة التشريعية (المجلس المركزي) بوقف التنسيق الأمني، لا يُلزم في حقيقة الأمر السلطة التنفيذية بالعمل بصورة أوتوماتيكية على تطبيقه فوراً، والإصرار على تفعيله أياً كانت النتائج المترتبة؛ وإنما يقضي بضرورة متابعة هذا القرار لوضعه موضع التطبيق العملي بأقل الأضرار المتوقعة، وتوظيفه لغايات فتح الأبواب المغلقة، وتوسيع هامش المناورة، ومن ثم إعادة التموضع في سياق أوسع، يعد بمخرجات كفاحية أنجع، وعوائد سياسية أجدى.
وليس من المبالغة القول إن وقف التنسيق الأمني أشبه ما يكون بالطلقة الأخيرة، التي عادة ما يحتفظ بها المقاتل في جيبه إلى أواخر المعركة، وهو ما يملي عليه عدم إطلاقها أبدا حتى النفس الأخير، كي لا تتحول بندقيته إلى عصا خشبية. كما أن سحب الرصاصة الباقية إلى بيت النار لا يوجب على المقاتل الجيد أن يسارع، والحالة هذه، إلى الضغط على الزناد عندما يلوح أول خطر أمامه. وهو أمر يكاد ينطبق بالتمام والكمال على الحالة الفلسطينية الراهنة، لاسيما أن حقل الرماية المعادية يغص بكل صنوف الأسلحة الثقيلة.
من المقدر لهذا القرار المحسوب بدقّة أن يحرك المياه الراكدة، وأن يرفع وتيرة الاشتباك السياسي الخافت، وينقله من حالة الدفاع إلى وضعية الهجوم المباشر. وعليه، فإن الأشهر الثلاثة المقبلة ستكون كافية لدفع كل المخاطبين بالقرار المؤجل التنفيذ حتى تاريخه، نحو إجراء المراجعات اللازمة، وإعادة تقويم الموقف من أساسه، مع الامتناع عن صب مزيد من الزيت على النار، لعل في غضون هذه الفترة القصيرة يتم فتح كوّة في الجدار.
ربما تكون مسألة إنقاذ السفينة الفلسطينية العالقة، منذ مدة طويلة، في برزخ من الصخور الناتئة، لها الأولوية الأولى على أجندة هذه المرحلة المكفهرة، وأن واجب العبور بها إلى مرفأ آمن، بعيدا عن روح المغامرة وسياسة “عليّ وعلى أعدائي” هي الغاية المركزية لورقة وقف التنسيق الأمني هذه.