هذا السؤال لاتزال نخبنا السياسية تطرحه على نفسها في منتدياتها واجتماعاتها، ولم تجد إجابة له، بعد. أغلب الظن أن السبب قائم في أنها لم تُعرِّف، بعد، معنى المصطلح «مِن هنا،» تعريفا عملياتيا مفيدا في التعامل مع الأحداث. ما هو هذا «الـ مِن هنا» أردنيا وعربيا، سياسيا واجتماعيا وعسكريا؟ لا بد أن يكون ذلك واضحا لدينا، منذ البداية، كي نتمكن من قياس مدى التقدم الذي نحرزه عندما نتحرك، والهدف الذي نسعى لتحقيقه من حركتنا، واتجاه تلك الحركة.
على أن من الضروري تأكيد البدهية السياسية، هنا، في أن الأردنيين ينطلقون من أردنهم العظيم، ارض الرباط، وما حققوه من إنجازات زمن التفكك والدمار الشامل الذي رأوه يعصف بدول عربية مجاورة وباليمن وليبيا التي تتحول أمامهم لدول فاشلة بالمعنى السياسي المتفق عليه عالميا.
ولقد أصبحوا، بوضوح موقفهم، وبما حققوه، في صراعهم الوجودي، يمثلون خط الدفاع الأول عن منطلقاتهم في العمل العربي والإنساني، وعن دينهم وثقافتهم وإرثهم الحضاري في وجه الحملة التي استهدفت كل دول منطقتنا والعراق.
وهم، في ذلك، يستطيعون الادعاء بأنهم الشعب الوحيد في منطقتنا، الذي عرف كيف يلم شعثه، ويقدم المثال، في ذلك، للشعوب الشقيقة، التي وجدت نفسها، وبالرغم منها، تستسلم، كما لو أخذت على حين غرة لقوى الكراهية والفرقة الطائفية والعرقية، والدينية، ما أفقدهم، دولا ومؤسسات، القدرة علىى اتخاذ القرار المستقل، بما يخدم مصالح شعوبهم.
لقد تحولت دول رئيسة منها إلى دول فاشلة، بالمعنى الذي اتفقت عليه دول الأمم المتحدة، بمعنى عجزها عن فرض سيادتها على إقليمها لمصلحة جماعات مليشياوية تنازعها تلك السيادة. فكانت سورية والعراق في بلاد الشام، واليمن في الجزيرة وليبيا في شمال أفريقيا.
فقد فقدت سورية سيطرتها على ربع أرضها في الجزيرة، لمصلحة عصابات داعش الإرهابية؛ كما أنها لا تملك أمرها في القلمون وفي حوران، وفي حلب، أيضا، لمصلحة جبهة النصرة، وهي الأخرى منظمة إرهابية، أردنا ذلك أم لم نرد. أما جيشها فقد لجأ لبراميله المتفجرة يلقيها على الأحياء المدنية في مدن وقرى البلاد في أسوأ تقاليد الإرهاب، حين يِستهدف المدنيون من أجل مكاسب سياسية ضد قوى المعارضة المسلحة.
أما الجيش الذي تحول إلى ما يشبه المليشيا، فقد ترك الحرب البرية، على الأرض، للحرس الثوري الإيراني ومليشيات طائفية مسلحة معادية من إيران والعراق ولبنان؛ وتحول رئيس الجمهورية، نتجية ذلك، إلى مجرد أمير من أمراء الحرب، لا يملك من أمره شيئا بما يجعله، عمليا خارج الحل، بل جزءا أساسيا من المشكلة.
لا يختلف الأمر كثيرا في العراق الذي أصبح ملكا للمليشيات الشيعية برئاسة نور المالكي، وحرس الثورة الإيراني؛ وداعش التي استعان بها المالكي، ذاته، لتبرير انتقامه من سنة العراق بالبراميل المتفجرة وتعقيد الوضع وإنهاء أي جهد يشير إلى حل الإشكال. فالعراق، ما لم يتحد العراقيون ويواجهوا المشكلة بشجاعة وحسم سوف يتحول إلى دولة فاشلة أيضا.
أما اليمن فإن ما يحدث فيه من صراعات مليشياوية يكاد يكون تكرارا عملياتيا ما حدث في العراق. فهو مهدد اليوم بالتقسيم والتشظي، يفتح ابوابه على مصاريعها لأي تدخل أجنبي معاد، وبطريقة لا تتفق وكبرياء اليمنيين وكرامتهم.
والشيء ذاته يحدث في ليبيا. فالبلاد مقسمة، على أرض الواقع، بين أنصار الشريعة وفجر ليبيا وبرلمانهم في طرابلس وحكومة الثني وبرلمانها المعترف به دوليا في المنطقة الشرقية؛ ومجموعات الإرهابيين إياهم بما عمق مشكلة ليبيا لتصبح، كما كانت، مشكلة مستعصية عربيا وأفريقيا.
يؤرق ذلك شعبنا بما تمثله الحالة من خطر داهم على دول عربية في سوراقيا- سورية والعراق، بشكل خاص. والأردنيون، وبحكم وقوفهم على أرض صلبة سياسيا وعسكريا وشعبيا وثقافيا، مهيؤون، بحكم علاقاتهم الودية العميقة الممتدة مع الشعوب الشقيقة، لمساعدتها، وبحكم تاريخهم المتصل لما يقارب القرن من الزمان، الآن.
لقد تصلب عود الأردن، هذا البلد الهاشمي المبارك، عبر تاريخه الطويل الحافل بالأحداث والتحديات حين اضطرت البلاد، أكثر من مرة، للسير على طريق الخطر كما لو كانت سراطا مشدودا فوق جحيم مستعر تكاد ألسنة لهيبه المندلعة تحرق أقدامنا. ولم تنتكس المسيرة مرة واحدة ولم تتوقف. كما لم تتوقف المحاولات العدوة للتصدي له بقصد إضعافه أو ثنيه عن عزمه على مواصلة السير.
الوعي على هذه الحقائق كان حاضرا دائما، ما جعل الناس أقرب في الخوانق التاريخية إلى حالة التحدي المضمخة دائما بروح الفروسية الحقيقية.
نضرب في كل ذلك المثل لشعوب شقيقة لا بد أن تعي ما يراد بها، فتعود إلى طبيعتها العربية، تقف متماسكة متراصة لتخرج من درك الانقسام والكراهية والاحتراب.