في زاوية من زوايا أيلول، وتحديدًا مع إشراقة شمس السابع والعشرين منه، يفتح العالم نوافذه على بعضه البعض، تقف الإنسانية كل عام وقفة تأمل واحتفاء بما بات يُعرف بيوم السياحة العالمي. يوم لا يختزل في الرحلات والحقائب والجولات الملونة بالكاميرات، بل هو احتفاء بالإنسان أينما كان، وبالتاريخ حين يسكن الحجارة، وبالجغرافيا حين تنطق بلغات متعددة، وبالاختلاف حين يصبح سبيلا للثروة لا الفرقة، ليس مجرّد يوم تقليدي يُضاف إلى أجندة المناسبات الدولية، بل هو لحظة اعتراف بأهمية السياحة كقوة ناعمة، تحرّك العجلة الاقتصادية، وتبني الجسور بين الشعوب، وتُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان.
في عام 1980، أعلنت منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة عن تخصيص يوم عالمي للاحتفال بالسياحة. وقد اختير يوم 27 سبتمبر تحديدًا؛ لأنه يتزامن مع الذكرى السنوية لاعتماد النظام الأساسي لمنظمة السياحة العالمية في عام 1970، وهو حدث يُعدّ علامة فارقة في مسيرة الاعتراف بالسياحة كقطاع حيوي على الصعيدين الإقليمي والدولي.
قد يبدو الاحتفال بيومٍ كهذا ترفًا في عالمٍ يئن من الحروب والتغير المناخي والفقر، لكن الحقيقة أن السياحة ليست نقيض الجراح، بل بلسمها أحيانا. حين تتجول في مدينة قديمة، تقرأ في جدرانها كيف عاش الناس، وكيف أحبّوا وخافوا وبنوا حضاراتهم. وحين تزور شعبًا بعيدًا، تكتشف أن الإنسان – رغم اختلاف اللسان واللون والعقيدة – يحمل ذات الحنين، ذات الأحلام، ذات الحكايات. ولهذا، فإن الاحتفاء بالسياحة هو احتفاء بالوحدة في التنوع، وبالانفتاح بدل الانغلاق، وبالسلام كأرضية لا غنى عنها لمستقبل مشترك.
لا يُمكن للسياحة أن تنمو أو تزدهر من تلقاء نفسها، بل تحتاج إلى بيئة حاضنة، وإرادة سياسية، وبنية تحتية، وتسويق ذكي. وهنا يبرز دور الحكومات والمؤسسات المعنية بالسياحة. فحين تستثمر دولة في ترميم المواقع الأثرية، وتسهّل إجراءات التأشيرات، وتُطوّر قطاع النقل والفندقة، ترسل للعالم رسالة واضحة: “أهلاً بكم في حضارتنا”.
وقد بدأت العديد من الدول تدرك أن السياحة ليست فقط دخلاً قوميًا، بل أداة دبلوماسية ثقافية، صناعة قيم الحفاظ على الهوية، تعزيز الاقتصاد المحلي، نشر ثقافة التبادل والاحترام. ففي عصر لم تعد فيه الحدود مجرد خطوط على الخريطة، يمكن لابتسامة مرشد سياحي أو دفء مضيف محلي أن تبني ما تعجز عنه المؤتمرات السياسية.
من قال إن السفر لا يكون بالكلمات؟ الأدب كان دائمًا مرآة الشعوب وجواز عبور للثقافات. إن للأدب قدرة خارقة على خلق السياحة من الخيال، وتحفيز القارئ لزيارة أماكن قرأ عنها في سطور شاعر أو أديب. وبهذا، يصبح الأدب حليفًا للسياحة، لا تابعًا لها، يرفدها بروح المكان، ويضخ في عروقها المعنى والرمزية. كما أن الأدب يؤدي دورًا نقديًا مهمًا، إذ يكشف زيف السياحة الاستهلاكية، ويدعو إلى نماذج أكثر إنسانية، أكثر احترامًا للناس والمكان والذاكرة.
الأردن… أرض الأنبياء متحف مفتوح للتاريخ
وإذا أردنا الحديث عن نموذج عربي يحتفي بالسياحة ويحتضن زائريه، فلا بد أن نذكر الأردن قلب المشرق العربي، على تقاطع طرق الحضارات يقف الأردن شامخا كواحة تاريخية وثقافية وسياحية، هذا البلد الصغير بمساحته، الكبير بتاريخه، الغني بتنوعه الجغرافي والثقافي. الذي يختزن في ترابه آلاف السنين من الحكايات، ويجمع بين الصحراء الذهبية والجبال الخضراء، السائح في الأردن لا يزور موقعا، بل يعيش تجربة. في مادبا، تقوده الفسيفساء إلى دروب الحج الأولى. من البتراء المدينة الوردية المنحوتة في الصخر تمشي الحضارة بين الأودية بشموخ الأنباط، إلى وادي رم الذي يشبه كوكبًا آخر يصعد على كثبان الحلم، إلى البحر الميت، النقطة الأكثر انخفاضًا على سطح الأرض، إلى جرش التي ما تزال أعمدتها تروي مجد الإمبراطورية الرومانية، ويسمع صدى الرومان… كلها شواهد على حضارة تتنفس رغم الغبار، وتهمس للزائر: “هنا مرّ الزمن، وترك بصمته”.
وقد أدركت الحكومة الأردنية أهمية السياحة كمورد اقتصادي وثقافي، مصدر دخل وطني مهم، إذ تساهم بنسبة كبيرة في الناتج المحلي، فعملت على تطوير هذا القطاع رغم التحديات، عبر تشجيع السياحة العلاجية، والسياحة البيئية، وسياحة المغامرة، والسياحة الدينية، مستفيدة من الموقع الجغرافي، والاستقرار النسبي، وروح الكرم المتجذّرة في وجدان الأردنيين. يعيد رسم صورة المنطقة أمام العالم كمنطقة جمال وسلام وتاريخ، لا صراعات ومآسي فقط.
كذلك لم يكن الأدب الأردني بمنأى عن روح المكان، بل شكّل أحد الأبواب التي دخل منها الناس إلى جماليات الأردن. فالشاعر الأردني حين يتغنى بوادي رم، لا يصف فقط مشهدًا، بل ينسج أسطورة المكان.
في قصائد عرار، نجد البادية الأردنية، وقد صارت ملحمة. •
في روايات جمال ناجي أو سميحة خريس، نقرأ عن الناس الذين صنعوا المدن والقصص. • في أدب الرحلات المعاصر، يكتب العديد من الشباب عن اكتشافاتهم في الكرك والطفيلة وعجلون، ما يضيف بُعدًا حميميًا على السياحة، ويحولها من تجربة سطحية إلى رحلة في الذات والهوية. ويُذكر أن كثيرًا من الشعراء والكتّاب الأردنيين ساهموا في الترويج للسياحة الداخلية عبر كتاباتهم، بل إن بعض الفعاليات السياحية باتت تُقام حول مهرجانات أدبية وشعرية، كمهرجان جرش، الذي يجمع الفن والأدب في موقع أثري فريد.
يوم السياحة العالمي ليس فقط دعوة إلى السفر، بل نداء للتقارب. في عالم تزداد فيه النزاعات، تصبح السياحة جسرًا من المحبة، ومنصة للحوار، ومدرسة لفهم الذات والآخر. وكلما سافرنا بقلوبنا وعقولنا، قبل جوازاتنا، أدركنا أن العالم أوسع من حدودنا، وأجمل حين نراه بعيون بعضنا البعض.
السياحة ليست رفاهية، بل حاجة إنسانية ونشاط استراتيجياً. إنها دعوة إلى الانفتاح والتفاهم، ولحماية ما تبقى من تراث عالمي مشترك، ولتعزيز الاقتصاد بوسائل سلمية ومستدامة. حين تتضافر جهود الحكومات، وتتفاعل المؤسسات، وينحاز الأدب للجمال، يمكن للسياحة أن تُعيد للعالم شيئًا من إنسانيته المفقودة، وأن تحوّل الرحلات الفردية إلى قصص جماعية تُكتب على جدران الذاكرة، لا على جدران الفنادق.
أما في الأردن، لا تقتصر السياحة على المعالم، بل تتسع لتشمل اللقاء بالناس، ودفء الاستقبال، وقصص الجدّات، وفتى يهمس لك عن مغامرة في الجبل، وبائع قهوة يقدمك لصديقه، فيصبح المكان كأنك فيه منذ زمن. هكذا يصبح الأردن تجسيدًا حقيقيًا ليوم السياحة العالمي: بلد صغير بمساحته، عظيم بثقافته، مفتوح بقلبه، مدهش بتنوعه، وواعٍ لأهمية أن تكون السياحة جسرا للسلام لا مجرد ممر للربح.
