آلان رسبريدجر – (الإندبندنت)
يعكس تحوُّل أصوات معتدلة ووفية لإسرائيل، مثل ماثيو باريس وبنيامين بوغروند، إلى الدعوة لفرض عقوبات خطورة المسار الذي تسلكه حكومة نتنياهو.
وهم يرون أن إسرائيل تسير على خطى جنوب أفريقيا الفصل العنصري. الكلمات لم تعد تجدي، والعقوبات باتت الخيار الوحيد أمام المجتمع الدولي، بعدما تحولت إسرائيل إلى دولة منبوذة يسودها الفاشيون والعنصريون.
* * *
المعتدلون هم الذين يجب الحذر منهم. فعندما ينقلبون، يكون أثر تحولهم أشد وقعاً من أصوات الصاخبين وراياتهم المرفوعة. كان ذلك رد فعلي على المقال الذي كتبه ماثيو باريس أخيراً في صحيفة “تايمز”، والذي دعا فيه إلى فرض عقوبات حقيقية من جانب المجتمع الدولي بهدف صريح هو التخلص من نتنياهو وحكومته الفاسدة.
يجسد باريس بالنسبة لي تصوراً يكاد يكون أورويلياً لمعنى الهوية البريطانية وأقصد هنا “أورويلي” بالمعنى الذي طرحه جورج أورويل في مقالته “الأسد ووحيد القرن”، لا بمعنى الكابوس الديستوبي في رواية “1984”. (بالتحديد، كان أورويل يكتب آنذاك عن معنى الهوية الإنجليزية، لكن الفكرة تنطبق أيضاً على البريطانية).
منذ استقالته كنائبٍ محافظ في البرلمان في العام 1986، ظل باريس يكتب مقالات تعكس النزاهة، والإنصاف، والاعتدال، وتمتزج فيها روح الفكاهة بقدرة لافتة على ضبط النفس، إلى جانب دفاع ثابت عن حرية الفكر والعمل والتعبير.
وهو في الوقت نفسه متمسك بالماضي والتقاليد، ولكن من دون أن يغيب عنه التسامح والبراغماتية. وفي انتخابات العام 2019 صوت لحزب الديمقراطيين الليبراليين بعدما ضاق ذرعاً بالشعبوية الانتهازية لبوريس جونسون. لكنه ما يزال يعتبر نفسه محافظاً مدى الحياة.
تأملوا إذن هذا الرجل العقلاني، وفكروا في دعوته الرصينة إلى فرض عقوبات على إسرائيل، استناداً – كما يقول- إلى خبرته الشخصية مع فعالية العقوبات ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، البلد الذي ولد فيه.
يقر باريس بأنه كان في البداية معارضاً لفكرة العقوبات، لكنه انتهى مقتنعاً بأنه لا بد منها. ويضيف: “حتى ذلك النظام الشرير لم يحاول محو هوية السود، ولا ذبح عشرات الآلاف منهم، ولم يقم بتسوية أوطانهم بالأرض”.
لو جاء هذا الكلام بقلم أوين جونز، أو كين لوتش، أو جيريمي كوربين، لاكتفى المدافعون عن إسرائيل بالقول: “هذا متوقع منهم، أليس كذلك”؟ وبالفعل، نشرت “التايمز” في اليوم التالي على صفحة الرسائل الإدانة المعتادة لكل ناقد صريح لإسرائيل باعتباره يردد دعاية معادية للسامية.
لكن تجاهل أصوات رصينة ومعتدلة كهذه خطأ جسيم. وهنا تحضر أبيات روبرت بيرنز: “يا ليت قوة ما تمنحنا القدرة على أن نرى أنفسنا كما يرانا الآخرون! كان ذلك ليجنبنا كثيراً من الأخطاء والأوهام”.
قبل نحو 25 عاماً قضيت يوماً كاملاً في غزة، ضمن رحلة هدفت إلى التعمق في فهم الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وهي قصة يصعب تحريرها صحفياً إذا لم تزر الأراضي المتنازع عليها وتستمع إلى الناس من جميع الأطراف.
معظم الإسرائيليين الذين التقيتهم لم تطأ أقدامهم غزة قط، ولا يعرفون شيئاً عن ظروف العيش هناك -وربما ينطبق الأمر نفسه على الفلسطينيين. على موائد العشاء، كان أشخاص محترمون يبدون آراء واثقة عن واقع لم يعرفوه. وبينما كنت أعود إلى حياة القدس المريحة والمنفتحة بعد يوم أمضيته وسط بؤس غزة ويأسها، كنت أتأمل الفجوة بين الأقوياء والضعفاء، بين من ينعمون بالراحة ومن يفتقدونها.
لم تكن المسافة طويلة -لا تزيد على الرحلة بين سويتو وضواحي جوهانسبورغ الشمالية، وهي رحلة قمت بها أيام الفصل العنصري -لكن أوجه التشابه كانت فاضحة ولا يمكن التغاضي عنها. في تلك الليلة تناولت العشاء مع ديفيد غروسمان، أحد أبرز الروائيين الإسرائيليين، الذي فقد لاحقاً ابنه في جنوب لبنان. بدأ حديثه قائلاً: “كنتَ في غزة اليوم. إذن، أخشى أنك ستكون غاضباً جداً”.
بعد خمسة أعوام، كتب مراسلنا في القدس، كريس ماغريل -وكان أيضاً مراسلاً سابقاً في جنوب أفريقيا- سلسلة من جزأين بلغ مجموعها 15 ألف كلمة، تناول فيها بدقة أوجه الشبه بين نظام الفصل العنصري الذي عايشه عن قرب في وطنه، وإسرائيل التي غطى أخبارها على مدى أربعة أعوام بجدارة.
قال ماغريل ما كان يعتبر آنذاك من المحرمات، فانفجرت عاصفة من ردود الفعل المنظمة والشرسة. وعلى الرغم من شكوى مطولة من 38 ألف كلمة رفعت إلى الهيئة المنظمة آنذاك، “لجنة شكاوى الصحافة”، لم يتم العثور على خطأ واحد في الحقائق المنشورة، واقتصر الأمر على تصحيح بسيط في لقب أحد السياسيين.
وكان الرد الأكثر إيلاماً من بنيامين بوغروند، نائب رئيس تحرير صحيفة “راند ديلي ميل” السابق، وهي صحيفة عرفت بسجلها البارز في مقاومة الفصل العنصري. فبعدما أمضى 26 عاماً في القدس، كتب بلا لبس: “لا مجال للمقارنة”.
لكن عجلة الزمن دارت، وقبل أكثر من عامين، تراجع بوغروند عن موقفه. بعد أن كان، على حد قوله، قد “جادل بكل ما أوتي من قوة” ضد اتهام إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري، اضطر الآن إلى الاعتراف بوضوح: “نحن اليوم تحت رحمة فاشيين وعنصريين (كلمتان اخترتهما بعناية) لا يستطيعون، ولن يستطيعوا، التوقف […] إن الحكومة اليمينية تدفع البلاد إلى التمييز والعنصرية المؤسسية. هذا هو الفصل العنصري”.
ويضيف، “إسرائيل 2023 هي جنوب أفريقيا 1948. لقد عشت ذلك من قبل: الاستيلاء على السلطة، والفاشية، والعنصرية، وتدمير الديمقراطية. إسرائيل تسلك الطريق نفسه الذي سلكته جنوب أفريقيا قبل 75 عاماً. الأمر أشبه بمشاهدة إعادة لفيلم رعب”.
أشك في أن كلمات بوغروند الصادقة تركت أثراً كبيراً، على الرغم من صدورها عن أكثر الأصدقاء وفاءً لإسرائيل. كان ذلك قبل شهرين من هجوم “حماس” المروع في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. ولكن حتى حينها كانت الكلمات قد فقدت كثيراً من قوتها أمام خطوط الانقسام المتصلبة في المجتمع الإسرائيلي.
ولكن كان ينبغي الإصغاء إليها. وقد اختتم بوغروند تحذيره بالقول: “إن إسرائيل تقدم هدية لأعدائها في ’حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات‘ وحلفائهم […] لقد دأبوا طويلاً على تشويه ما هو سيئ أصلاً إلى مستوى بشع، لكنهم الآن سيقولون إنهم كانوا على حق. إسرائيل تعطيهم البرهان”.
وها نحن اليوم، بعد ثلاثة أعوام، ولم يعد أعداء إسرائيل وحدهم من يطالبون بالعقوبات، بل أصدقاؤها أيضاً. إنهم المعتدلون الذين انقلبوا عليها -وكل المؤشرات تدل على أن إسرائيل ستتجاهلهم بدورهم.
لم تعد الكلمات ذات قيمة -سواء أتت من كتاب الصحف، أو منظمات إنسانية، أو قادة عالميين. لم يعد ثمة جدوى من القول للإسرائيليين أن حكومتهم تسيء إلى سمعة بلدهم، أو أن إسرائيل باتت دولة منبوذة. لا أحد في حكومتهم يبالي.
وهكذا، يرى باريس، ومعه كثيرون ممن كانوا ينفرون سابقاً من هذه الإجراءات، أن العقوبات الفعلية هي الرد الوحيد الممكن. “وإلا”، كما كتب، “فسنعود إلى هذه الأعوام لاحقاً ونحن مشدوهون وخجلون لأننا سمحنا بوقوع مثل هذه الفظائع من دون تدخل جاد من جانبنا”.
فهل من مستمع؟
*آلان رسبريدجر Alan Rusbridger: صحفي وكاتب بريطاني بارز، شغل منصب رئيس تحرير صحيفة “الغارديان” بين العامين 1995 و2015. عُرف بدوره في تعزيز الصحافة الاستقصائية ونشر تسريبات كبرى مثل ملفات سنودن ووثائق ويكيليكس.
