المعرفة ليست ما يتكدّس فوق الرفوف، وليست ما يُعاد ترتيله في قاعات الدرس؛ المعرفة في جوهرها ليست ذاكرة ممتلئة، بل روح تلد من ذاتها ومضة لم يعرفها الكون من قبل. إنها ليست شيئاً نملكه ، بل حدث كوني يقع في أعماقنا، أشبه بالبرق الذي يشقّ سماءً حالكة ويكشف للحظة معنى لم يكن مرئياً ، في تلك اللحظة، لا تكون المعرفة معلومة، بل تكون ولادة، صرخة أولى من رحم الروح. ومن هنا يبدأ الانقسام الذي يُعيد تشكيل كل شيء: المعرفة الأصلية والمعرفة المنقولة.
المعرفة الأصلية ليست مرتبطة بسبقٍ تاريخي؛ ليست مسألة أن تكون أول من كتب، بل أن تكون أول من انبثق فيه المعنى كحدث داخلي. حين تكتشف قانوناً صغيراً لحياتك اليومية لم يخبرك به أحد، تلك أصالة. حين ترى في مشهد مألوف بعداً لم يره سواك، تلك أصالة. الأصلية هي التقاء الوعي بذاته دون وسيط، حيث يتحول الإنسان من متلقٍ إلى خالق. هي لحظة عري، لا يغطيها إرث ولا يحرسها سلطة، بل تُطل من صدقٍ عارٍ لا يملك إلا أن يكون هو ذاته.
أما المعرفة المنقولة فهي الصدى. قد يكون الصدى جميلاً، لكنه ليس صوتاً جديداً، إنه انعكاس لصوت آخر مضى. المنقول هو المرآة، والأصلي هو الوجه. المنقول يعلّمك كيف تسير، لكن الأصلي يجعلك تخترع الطريق. المنقول يربطنا بالبشر الذين عاشوا قبلنا، لكنه لا يمنحنا القدرة على تجاوزهم. إننا بحاجة إليه كما يحتاج الطائر إلى الريش، لكن الطيران لا يحدث بالريش وحده، بل بالقدرة على شقّ الهواء.
الفرق بين الأصلية والمنقولة يشبه الفرق بين النَفَس والصورة. الصورة تحفظ شكلك لكنها جامدة، أما النفس فهو حضورك، هو الحياة التي لا يمكن تكرارها. المنقول صورة تُثبت اللحظة، والأصلي هو الحياة التي تتدفق الآن. لهذا السبب كانت المعرفة الأصلية دوماً مُقلقة؛ إنها لا تمنح الاطمئنان، بل تزرع الشك، تُشعل الأسئلة، وتضعك أمام هاوية الحقيقة. المنقول مريح لأنه يكرر ما اعتدناه، أما الأصلي فهو مرعب لأنه يزعزع استقرارنا.
منذ بدايات التاريخ، لم تتقدم البشرية بالمنقول بل بالأصلي. كل حضارة حقيقية بدأت بفرد قرر أن ينصت لما ينبثق من داخله. لم يكن سقراط ناقلاً بل مزلزلاً، لم يكن ابن عربي حافظاً بل كاشفاً، لم يكن نيوتن شارحاً بل واهباً لنظام جديد للعالم. الأصالة هي الشرارة التي تضيء فجأة وتعيد ترتيب الفوضى في عقل البشرية. بينما المنقول يشبه رماد نارٍ خمدت، يحفظ أثرها لكنه لا يمنحك دفئها.
المأساة أن معظم البشر يرضون بالمنقول. المدارس تُخدر الأطفال بالحفظ، الجامعات تُدرّب العقول على التكرار، المؤسسات تُكافئ من يعيد الصدى لا من يخلق الصوت. حتى الفكر في كثير من الأحيان صار إعادة إنتاج لمقولات الآخرين، أقصى طموحه أن يُنسب إلى مرجع قديم. هكذا نصبح جميعاً سجناء للماضي، نردد صدى أجدادنا بدل أن نولد أصواتنا.
المعرفة الأصلية تحتاج شجاعة لا يملكها الجميع: شجاعة أن تُواجه وحدتك. الأصلي يولد غريباً، يتيماً، يُتَّهم بالهرطقة، بالسذاجة، بالجنون. لأن الأصالة تهدد النظام القائم على المنقول. كل فكرة جديدة تُشبه الضوء الذي يقتحم غرفة مظلمة، في البداية يحرق العينين، ثم يُنير كل شيء. لكن أكثر الناس يفضلون الظلام المألوف على نورٍ يغير عاداتهم.
إن الفرق بين الأصلي والمنقول هو أيضاً الفرق بين الحرية والعبودية. حين تعيش بالمنقول فأنت تلبس ثوباً خاطه آخرون لزمان آخر. قد يكون جميلاً لكنه ليس لك. حين تولد معرفتك الأصلية، فإنك تخيط ثوبك من قماش روحك. المنقول يجعلك نسخة محسنة، أما الأصلي فيجعلك كائناً لا يتكرر. تجربتي تقودني إلى القول إن الإنسان يُولد أصيلاً ثم يُعلَّم النقل. الطفل يرى العالم كما لو كان يُخلق أمامه، كل شيء جديد، كل اكتشاف صاعق. لكن ما إن يدخل منظومة التعليم حتى يبدأ الصدى في ابتلاع الصوت: هذا صحيح، هذا خطأ، هذا قيل من قبل. يكبر وهو يظن أن المعرفة هي ما قيل، لا ما يقال الآن من داخله. قليلون فقط ينجون من هذا الحصار، أولئك الذين يملكون شجاعة العودة إلى دهشة الطفولة، إلى أصالة النظرة الأولى.
في زمن الذكاء الاصطناعي، يصبح السؤال أكثر خطورة. الآلة قادرة على اجترار المنقول بمليارات الصور، قادرة على حفظ كل صدى في التاريخ، لكنها عاجزة عن أن تولد دهشة أصلية. إذا استسلم الإنسان لهذا النقل الآلي، فإنه يفقد جوهره، يصبح مجرد صدى بين أصداء. المعرفة الأصلية هنا ليست ترفاً، بل شرط بقاء. إذا لم نملك القدرة على توليد السؤال، فإننا سنُستَبدل. المستقبل لن يسأل: ماذا تعرف؟ بل سيسأل: ماذا وُلِد فيك ولم يولد في أحد سواك؟
المعرفة الأصلية هي أن تواجه العالم بلا قناع، أن تقول ما تراه أنت لا ما لقّنوك إياه. هي أن تنصت لذلك الخيط الخفي بين قلبك والكون، حيث تنبثق ومضات صغيرة لا يمكن أن تكون ملكاً لغيرك. المنقول يُعيد ترتيب الفوضى في الخارج، لكنه لا يغير شيئاً في الداخل. أما الأصلي فهو الذي يهزّك من جذورك ويجعلك إنساناً جديداً.
في النهاية، لا مستقبل للبشرية إن لم تُعِد الاعتبار للأصالة. نحن بحاجة إلى أن نعيد للطفل حق الدهشة، للطالب حق السؤال، وللمفكر حق الانحراف عن المألوف. لأن المعرفة ليست أن نكون مخازن معلومات، بل أن نكون كائنات تولّد المعنى. المنقول هو الماضي الذي يُعاد نسخه، والأصلي هو الحاضر الذي يُخلق الآن. وما بين الصدى والصوت، يتحدد مصير الإنسان: إما أن يكون مجرد نسخة، أو أن يكون بداية لعالم جديد ، ببساطة المعرفة ليست ما نحمله في الذاكرة، بل ما يولد في الروح كبرقٍ يغير الوعي، الأصل صوت، والمنقول مجرد صدى يتلاشى في العدم..!
