أخط هذه السطور احتفاء بالعمال أينما كانوا ما دام نتاج عملهم نافعا لبلادهم وللبشرية، وإجلالا لقيمة العمل ومكانة الخدمة في المعمورة عبر التاريخ.
هنا في بلاد العم سام يحتفل الناس -مواطنون ومقيمون بصرف النظر عن وضعهم القانوني- يحتفلون منذ القرن التاسع عشر بالعمل كقيمة، خلافا لما نشرته الشيوعية والاشتراكية عالميا من احتفالات بعيد العمّال الذي يصادف الأول من أيار.
عيد أو يوم العمل الأمريكي هو أول اثنين من كل سبتمبر حيث تكون العطل الفدرالية اليومَ بثلاثة! تمتد من مساء الجمعة حتى صباح الثلاثاء، إفساحا للناس كافة بقضاء وقت نوعي مع الأسر والأحبة من الأصدقاء والجيران والزملاء.
كمجتمع رأسمالي قائم على الفرد والحرية المسؤولة لا المنفلتة كما يخيّل للبعض، لا بد من إضفاء قيم على المحتفى به أو المحتفل بهم، حتى تتحقق معاني الصهر الوطني والدمج والانسجام الاجتماعي، فيكون الحافز المالي هو المحرك للاقتصاد، بكل ما يحمل ذلك من ثمار نِعم وبذار خير يعم الجميع في نهاية المطاف.
عطلة ثلاثة أيام ليست «تعطيلا» لشيء. نظرة واحدة لحجم حركة النقل والتنقل برا وجوا وبحرا تشهد بذلك، ونظرة أخرى للأسواق تشهد لحكمة صاحب القرار في هذا النوع من التعطيل الذي تتحقق فيه فضيلة وحكمة ونعمة تضمنتها «الوصايا العشر» أو الأصح الأوامر والنواهي العشر.
فعندما يقال إن أمريكا -العالم الجديد حينه- قامت على أسس كتابية في إشارة إلى الكتاب المقدس، من بين ما يعني عيد العمل وخير العمال وأسرهم ومجتمعهم هو توكيد الحاجة إلى الراحة لا كحق فقط، بل كواجب يرقى إلى مستوى الفريضة.
كم من الفصلِ فيه وصْل.. تلك مسألة خبرتها في حياتي الشخصية والمهنية ضمن ثقافات وبيئات عمل متعددة، أذكر فيها قائدا -وليس كل مدير، مسؤول أو قائد- كان من ضمن لجنة تعيينات -أقل من أصابع اليد- تشرفت في الخدمة في صفوفها. لا أذيع سرا وبمقتضيات الحفاظ على الخصوصية، تعلمت من ذلك القائد الإداري أن من أهم الأسئلة والمعايير الخاصة بتعيين وتسريح وتقييم وترفيع الموظف أو العامل ليس فقط الأمور التقليدية الخاصة بالسير الذاتية وإنجازات العمل وشهادات التقدير وكتب التوصية المهنية من عمل سابق أو حالي، بل في التحقق من أن ذلك المرشح أو الموظف يحسن إدارة الوقت، ومن قبل تقديس الأولويات القصوى في حياة الإنسان ألا وهي نفسه وأسرته ومحيطه، بدءً من «فريق العمل» وانتهاء بروابط الحياة الاجتماعية والالتزام الوطني.
من لا يدرك أنه أب قبل أن يكون عاملا أو مسؤولا-مهما علا شأنه وذاع صيته- لا خير فيه لرب العمل، سواء أكان في القطاع الخاص أم العام. القدرة على الاستمتاع بالإجازة وحسن التقدير في استقطاع وقت للراحة خلال ساعات العمل -طالت أم قصرت- تصب في صميم طبيعة العمل. في مهنة مستنزِفة للأعصاب والعاطفة الإنسانية، كالمراسلين الصحفيين الميدانيين العاملين في ساحات الحروب والكوارث الطبيعية أو البشرية، تتحول الإجازات من مزايا يمنحها رب العمل إلى حق لا يمس من حقوق العمال لما فيه مصلحة الجميع. يتطلب الأمر فهما خاصا لواجب وليس فقط حق الإجازة والراحة. تماما كما في وظائف يكون فيه الخطأ الناجم عن الإهمال قاتلا، كالمراقبة الجوية في المطارات، أو مهام المتعامل مع شاشات دائبة التحديث في الأرقام والمؤشرات، أيا كانت طبيعتها عسكرية أم ميدانية.
من الآخر، وخلافا للصورة الرومانسية أو الأسطورية التقليدية القائلة بأن فلانا لا ينام الليل أو لا يتوقف عن العمل وعلنتانا يصل ليله بنهاره، فإن الحكمة تبقى في الغاية من العمل أو الخدمة. لذلك يقترن الصلاح بالفلاح، والعطاء بالفداء، والجهد والعمل، ببركة الثمر الناتج عنه كإنجاز قابل للاستدامة والنمو.
وإن كان من أمنية في عيد العمل هذا، فرجاء علني بإجازة العاملين في أماكن شديدة الخطورة، وأعني بذلك إخوتي وزملائي الصحفيين الميدانيين. لا أتحرج من القول بأن التوصية الجديرة بالهمس في أذن صاحب القرار وصنّاعه في حالات خطرة كتلك التي مرت بها ساحات عدة من سنوات «الفوضى الخلاقة والربيع العربي» الدامية الهدامة، كانت تذكرنا دائما بأن الصحفي -حياته وأسرته- أهم من الخدمة الصحفية والسبق الصحفي والبث المباشر وكل ما يرافق التغطية الميدانية والمباشرة من «احتفالية» الإثارة. إن كانت بعض الساحات عالية أو شديدة الخطورة، من الواجب الإنساني والوطني والمهني سحب الفرق الميدانية فورا، دون تردد أو تحرّج.
