«لكل أجل كتاب». ما زالت الحياة- حياتنا الشخصية قبل المهنية والوطنية- تذكرنا بحقائق لا تحتمل الشراكة ولا القسمة. الحياة والموت، الصحة والمرض، الشدة والرخاء، الهناء والشقاء. ربما العزاء فيما تحفظه الناس في قلوبها لمن أدركهم الموت، فسبقونا وتركوا لنا -لبعضنا- «الجمل بما حمل».
«كفى بالموت واعظا يا عمر». يعظنا العارفون برسالات السماء دائما بأننا في ممر لا مقر، وأن الآخرة خير وأبقى لمن عمل صالحا، وأن «الباقيات الصالحات» هي أعمال البر والإحسان، وأن أعمالنا ستبقى شاهدة علينا في دنيانا الفانية إن كنا ممن اجتهد فأصاب، فحظي بالأجرين، أم خسر فأعاد الكرّة مرة تلو أخرى حسنا في الظن بربّه. كثير من التفسيرات والتأويلات لنصوص كتابية من مختلف الديانات والمذاهب والطوائف تعلمنا أن النجاة والخلاص مكرمة ربانية، وهبة إلهية، لا مجرد تراكم لحسنات، وحتٍّ لما قد يقابلها من خطايا وذنوب وسيئات.
تكرمنا المنابر الإعلامية -ومنها الدستور الغراء- بإتاحة مساحة غير إعلانات الفرح بالأعراس أو المواليد أو الخرّيجين أو الترفيع، أو تلك المخصصة في صفحات أمامية وخلفية بأعلى الأثمان، للتعبير عن الحزن والمواساة لفقد عزيز أو مرض ألمّ بقريب أو صديق أو زميل، تكرمنا لتحويل الخاص إلى عام، والعام إلى خاص، في حالات تستحق ذلك.
رحم الله الأيقونة الإعلامية الأردنية الأستاذ الكبير إبراهيم شاهزادة وقد تحققت أحد أمانيه بأن يُوارى جثمانه الطاهر الثرى في الأردن الذي أحب وخدم صادقا مخلصا. كان -جزاه الله عنا خير الجزاء- صاحب فضل على كثير من تلاميذه ورفاقه في حراسة ثغر من ثغور الوطن وحماية قلعة من قلاع المملكة. كان «معلمنا» إبراهيم ينادى في أروقة أحب الأماكن إلى قلبه الطيب -غرفة الأخبار- بكنيته «أبو لؤي» أو وتلك الأكثر شيوعا «باشا». نعرف القصة جميعا التي تحدث عنها فقيدنا الكبير في كتيّبه «من دفتر الذاكرة». اللقب ليس رتبة عسكرية، بل مكانة استحقها الأخ الكبير بجدارة لا لمواهبه الإعلامية ووطنيته وإنسانيته فحسب، بل وطيب المعشر الذي تميّز به في مهنة لا يسلم من نارها إلا من رحم ربي، حيث التوتر والضغط المتواصل يفعل في النفس أفاعيلها، فهي كما النار تحرق الطّيب فيصير عطره وشذاه فواحا..
لرحيل الشخصيات العامة أثره في المجتمع برمته. ويتميز رحيل نجوم الإعلام والثقافة والفن والرياضة ببعد إضافي هو ما أراه قضية وطنية إنسانية من الواجب الانتباه إليها حتى لا يصيبنا ما نشعر به عند الفقد الشخصي لأحد أحبتنا.
ليس سرا أن ثمة تقصيرا أمميا يتعلق ببني آدم تاريخيا وعلى اختلاف الثقافات، تقصير في تكريم الكبار والاحتفاء بهم والاحتفال بعطائهم وإبداعهم أكبر قدر ممكن وهم على قيد الحياة وعلى رأس عملهم، دون الالتفات لقوانين يفترض أن تكون مرنة خاضعة لتقدير المؤتمن على تشريعها وتنفيذها بما يحقق روح القانون، لا حرفية كلماته ونصوصه التي ينبغي أن تكون مرنة مواكبة لحاجات التطور.
تنبّه الكثير من المجتمعات الحية والدول المتطورة لأهمية عطاء المبدعين، حيث حرمانهم من العمل لأي اعتبار كان بمثابة قتل ليس فقط للمبدع، وإنما لكل من تأثر به واعتبره نموذجا يحتذي به. من تلك الإجراءات، الحرص على إدامة التواصل والاستفادة من قدرات المبدعين في أي صيغة كانت. ولا تعني قطعا لا المناصب ولا الرواتب ولا حتى العطايا والتكريمات بأنواعها. الإعلامي أو الفنان -ممثلا أم مطربا أم رساما- الرياضي في الرياضات الجماعية والفردية، يحيى بقدر ما يؤدي خدمة، ويعبّر عن مخزونه العاطفي والفكري في سبيل، من وما يحب. غير ذلك التوجه، فما هو إلا انتحار بطيء، وقتل أكثر بُطئا وأشدّ إيلاما. هو في نهاية المطاف تبديد لطاقة -استثمر بها الوطن ربما مئات الألوف من الدنانير- كان من الأجدى توظيفها لجني ثمار ما زرع من بذار خير وبركة، سواء في القطاع العام أو الخاص كلاهما ثمر جهد وطني، سيما وأن بعض «المنسيين» بصرف النظر عن سبب ذلك- يتحولون لأسباب ذاتية وأحيانا خارجية إلى أدوات بأيدي الأعداء أو «الأعدقاء».
يتنبّه المعنيون، حكومة كانت أم جهة وطنية أم مهنية في البلاد، خاصة زملاء المهنة، لهذه القضية، فيعملون -وهذا دور العمل النقابي الحقيقي والأهم، ويفترض الوحيد (ليس إقحام النقابة بالدين والسياسة)- يعملون على إدامة التواصل الفعال مع المبدع، فيكون التكريم دائما لا موسميا، عاجلا لا آجلا، بعد رحيله عن دنيانا.
حتى الجانب الصحي، لا بل والنفسي السلوكي، يتنبه إليه نجوم الملاعب في عالم كرة القدم مثلا، ودون الدخول في تفاصيل قد تكون حساسة وشخصية، يعمل رئيس الفريق أو صاحب النادي أو لاعب زميل على إنقاذ نجم من النجوم من ويلات أو مشكلات، بصرف النظر عما إن كانت خارجية أو ذاتية، بما فيها الخيارات التي قد تبدو شخصية. لا مكان لذلك للشخصية العامة المبدعة التي تؤثر في وطن ومجتمع بأسره. حتى التدخين، من حق من يحب ويقدر شخصية مبدعة معينة أن يتشدد معها في ضرورة الإقلاع الفوري عن تلك الآفة، والتعامل معها وكأنها خطر يتهدد أحد «موجودات» -آسِتْسْ- البلد وليس الشركة أو القناة أو النادي.
فقدنا قبل أسابيع في لبنان الشقيق زياد الرحباني، وقبل سنوات حبيب الزيودي ومتعب الصقّار ونبيل المشيني وهشام يانس يرحمهم الله أجمعين، وطول العمر للمبدعين الذي ما زالوا على قيد الحياة. من الواجب الإنساني قبل الوطني والمهني الانتباه إلى أحوالهم، ولو بكلمة، بابتسامة. من لا يتوقف هاتفه عن الرنين -أو هواتفه عن الرسائل الصامتة- وأمضى عمرا بالاشتباك الإلكتروني والورقي مع كم هائل من الإيميلات والمذكّرات، بحاجة إلى إعداد مسبق ليوم التقاعد، وما بعده من حياة، من حقه ومن واجبنا إزاءه، أن تكون أكثر إمتاعا.
«ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا». ومجتمعنا بفضل الله مجتمع محبّ وفيّ أصيل.. ما يحتاج إليه بعضنا ربما مجرد ما يعرف لدى مؤسسات الضمان الاجتماعي في العالم ب «تفقّد حياة»! فليس كل التكريم الآجل مُستدركا..
رحم الله نجوم مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الكبار، الرعيل المؤسس. وأطال الله في أعمار الأحياء الحاضرين في القلب والوجدان دائما، أصحاب الفضل والسبق..
التكريم الآجل ليس مستدركًا* بشار جرار
4
المقالة السابقة
