عندما يخاطبني شخصٌ عربيّ بعاميّته أشعر أنني محتاجٌ إلى بعض الوقت كي أكتشفه ويكتشفني، لأنني أحسّ أنّه ينتمي إلى عربٍ يختلفون عن العرب الذين أعرفهم بعض الشيء، حتّى وإن كنت أستطيع بسهولة أن أفهم كلّ ما يقول، ولكنّه متى يتحدّث بالفصحى فإنّني لا أشعر بأيّ فارقٍ بيني وبينه، ليس لأنني أحبّ الفصحى أو أزعم أنني أجيد التحدث بها، بل لأنني أحسّ أن الفوارق التي بيني وبينه في اللهجات قد زالت واختفت عند حديثه، وأشعر أنّه أصبح أكثر قرباً منّي، وأنّه خاطبني بما نحن مجتمعان عليه ويعرفه كلانا. ومع أنني أحترم العاميّات وأقدّر الفوارق بين اللهجات إلاّ أنني أرى في العربيّة الفصيحة صلة قربى وصلة رحم تجمع بين القلوب والعقول وتزيل الفوارق والهواجس من إساءة الفهم وتريح النفس. أقول ذلك وأنا خارجٌ للتوّ من مناسبةٍ ثقافية شارك فيها ممثلون عن دولٍ عربيّةٍ كثيرة، فمتى كان حديث أحدهم بالعاميّة كنت أشعر ببعض الاغتراب –مع قدرتي على فهمه واستيعابه بالكامل- ولكن متى كان حديثه بالفصحى فإنني كنت أشعر بكثير من الارتياح والألفة والاقتراب منه ومن أبناء البلد التي ينتمي إليها. لأنّ الفصحى تخفي الهويّات الثانوية وتبقي على الهويّة الأوسع والأشمل، فلا تكاد تميّز وأنت تسمع الفصحى على لسان المتحدث إن كان هذا المتحدث أردنياً أو عراقياً أو كويتياً أو مصرياً أو غير ذلك، وتشعر أنّ ما يجمعك به أكثر بكثير ممّا يجمعك به لو تحدّث بلهجة بلده.
يا لله ما أروع هذه الفصحى وأجمل وقعها على النفس، فلا يدرك حقيقة أُنسها وجمالها وتأثيرها ودفئها إلاّ من كان في بلدٍ عربيّ غير بلده، لأنّها عند ذلك تزيل غربته وتساعد في تفاعله مع أبناء ذلك البلد الشقيق، وتجعله يشعر أنّه واحد منهم يفهم ما يفهمونه ويفكر بمثل ما يفكرون به. استثني من ذلك صنفاً من اللغة الفصيحة، وهو الذي إن قرأته أو سمعته فكأنّك تقرأ أو تسمع كلاماً أجنبياً، إمّا بسبب الفذلكة الزائدة التي يسعى صاحبها إلى إيهام القارئ أو المستمع أنه صاحب فكر عميق أو ثقافة من نوع خاص، وإمّا بسبب فقدان النصّ للترابط ووضوح الفكرة، فمثل هذه اللغة –مهما كانت سليمة ودقيقة نحواً وصرفاً وإملاءً- فإنها تبقى أشبه بالعاميّة في بلدٍ غير بلدك.
ليس المطلوب أن نلغي العاميات من حياتنا، فهي جزءٌ لا يتجزأ من تكويننا الثقافي، ولكنّ المطلوب أن نسعى ما استطعنا إلى استعمال لغةٍ مشتركة تزيدنا قرباً من بعضنا بعضاً وتعمق ما بيننا من المحبة والتواصل والتفاهم.
salahjarrar@hotmail.com