عروبة الاخباري – خاص – كتب سلطان الحطاب – كالنسر ظل يحلق عاليا وكان في تحليقه يريد ان يرى وطنه الذي لم يستطع ان يهبط اليه.. كان سعيد خوري قد حمل همًّا اكبر من جسمه، وارادة اثقل من قدرته على الاحتمال ..
كان قد عقد العزم ان يحقق مضمون بيت المتنبي :
واذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الاجساد
حين وقعت النكبة عام 1948.. خسر كل شيء.. خسر ذكريات لم يرد ان تغيب، ولذا احتفظ بها في وجدانه.. خسر مرابع الصبى ،ومقاعد الدرس، وساحة المدرسة، والذهاب الى الكنيسة، يوم الاحد.. وحضن العمة التي اعطته الكثير من الحنان.. خسر حضور ديوان الوالد في ريف طبريا الذي كانت تاتيه العرب والعربان ليحلوا مسالة او يستفتوا في خلاف او ينظروا الى حاجة.. خسر طريق طبريا وهو يرافق صهاريج الماء المملوءة بالسمك الطازج الذاهب الى التوزيع في صباحات الفجر الندية على ساحل البحيرة وبين اشجار الحلفا ..
وحين قذف الاحتلال باهله خارج تراب الوطن كان كالشجرة التي اقتلعت من تربتها. لكنه ظل محافظاً على نداوة الجذر حتى لا تموت الشجرة التي تنقلت من بيت الى اخر ومن تربة الى اخرى.. ذبلت اغصان ورحل الوالد وفي النفس الم وغصة وانكسار ..
كان يتحدث معي عن والده الذي حدثه عن اشياءه التي فقدها في وطنه وحين احتضن اطفاله وسعيد منهم وخرج الى بيروت ليحشرهم في غرفة واحدة ويدير حواراً ساخراً مع زوجته التي قالت له ” اغلق الباب فقال وهل السارق يأخذ اطفالاً؟ ليس لدينا شيء” ويبدو ان الكلمات كانت تنساب في اذن الشاب سعيد خوري ” ليس لدينا شيء” والذي تسلح بشهادة الجامعة الاميركية والتدريب على اعمال الهندسة والمقاولات منذ كان في حيفا قبل النكبة، وحتى بعد الخروج، وقد عمل في سوريا وجال في مخيم اليرموك، وراح الى الاطراف وعرف المقاولات الصغيرة والسريعة من الباطن. واخذه الطموح الى الخارج، فحط رحالة في عدن وتحمل الحرّ والقرّ والصحراء والطوز وقسوة الطبيعة وجفاف الدروب وعبوس الايام ، تحمل ذلك لان الاحتلال كان اقسى ولان ردة فعله التي شابهت واخذت وتاثرت من ردة فعل قريبة حسيب الصباغ اخذت منحنى آخر، ليس الرد على الاحتلال بالسلاح وانما بالنجاح فالسلاح كان محرما وغير متاح..
سنوات عدن كانت صعبة لكنها مثمرة وبعدها من مدينة الى اخرى ومن بلد الى اخر ومن لقاء الى اخر.. من العمال البسطاء الى الرؤساء والحكام وقادة الدول.. كانت اوراق اعتماده نجاحاته والامثلة التي كان يقدمها منها ..
فقد ترك سعيد خوري في كل بلد بصمة واثر ومعمار ظل شاهدا على اخلاصه واتقانه وحبه لعمله وحبه لامته التي استوطنت في صدره..
نهضت امبراطورية سعيد خوري وشريكه حسيب صباغ ووقفت على قدميها وسعت في العالم العربي ودخلت بوابات العالمية بالانجاز وراحت الـ( CCC) شركة “اتحاد المقاولين” تؤكد هويتها وتتسع لتحمل قيما جديدة، واساليب جديدة، وتصبح وطنا لاولئك الذين راوا فيها وطنا لغياب وطنهم فاعطوها ما يعطي الوطني المحب لوطنه..
في كل رحلاته البعيدة والقريبة .. السهلة والصعبة.. ظل يخبيء صفد في صدره وظل يحفظ طرقاتها وتقاسيمها حفظه لوجه ابنته المحببة اليه تيماء، وظل يرى في العمل رسالته واوراق اعتماده ردا على العدوان والانكسار الذي اصاب شعبه وابناء وطنه فكان لا يعود الى البيت الا قليلا. ولم يحضر ولادة اولاده فقد كان منصرفا الى مرحلة التكوين التي استنزفت زهرة شبابه. وكانت زوجته تتفهم ذلك وترى انه في غيابه وانهماكه في العمل انما كان يثأر من اولئك الذين حاولوا رسم صورة بائسة للفلسطيني ليبرروا بها انتزاعهم لوطنه وادعائهم انهم انما اخذوا وطنا بدون شعب. وكان يكفي سعيد خوري ان يسمع جولدا مائير في الخمسينات حين كان في عدن وهي تقول اين هو الشعب الفلسطيني؟ كان يدرك ان للرد اكثر من طريق وان الاضمن هو ما يراه في عمله..
حين ابصرت عيناه النور في صفد كانت قرية هادئة ووادعه لها عاداتها وتقاليدها وعلاقات اهلها ولها من الطعام انواع كان الاحب الى نفسه منه “المجدرة الصفدية” التي كان يعشقها ويحفظ ابيات قيلت فيها كتبها الشاعر اسعد رستم :
قلت الذي يشفي مخاطر علتي شيء وحيد وهو صحن مجدرة
يؤتى بها وحياتكم فتعودني روحي واصبح بالحقيقة عنترة
توني بها صحنا كبيرا عامرا والأمر افضل ان اتت بالطنجرة
توني بها بالزيت ام باللحم لا فرق بشرط ان تكون مدردرة
التقيته اول مرة وقد عرّفني عليه وجمعني به، صهره ردين قعوار المتزوج من ابنته تيماء.. وقد حدثته عن زيارتي لصفد وتصويري لبعض بيوتها، الذي كان بيت عائلته احدها بالصدفة، وقد تاثر لذلك.. فما ان تُذكر صفد حتى تجيش الذكريات في صدره، وكان ردين قعوار صهره قد اصطحبه الى رحلة وغداء في بلدة ام قيس حيث مطعم واستراحة.. وكان المكان يطل على طبريا حيث ارض عائلته وبيوتها ومزارعها فما ان رأى المشهد حتى ترك الغداء ولم يمد اليه يدا وطلب الاسراع بالرحيل..
هذا هو سعيد خوري الذي يستحق ان تدون حياته في اكثر من كتاب ؛ الانسان الرقيق الوطني الرومنسي الحالم والواقعي الصلب المثابر.. هذه هي شخصيته المركبة ، صاحبة الخبرة والتخصص والابتعاد عن التعالم والتفاخر والادعاء.. كان يرى ان العمل هو هوية الانسان.. فكان في بيت لحم ليقيم مشروع اعمارها عام 2000 وهو الابرز من المشاريع منذ قيام السلطة الفلسطينية ،وكان ان اقام ايضا محطة توليد كهرباء غزة وشارك في افتتاح حقل الغاز الطبيعي فيها ايضا ،ومشاريع اخرى استثمارية وخيرية عديدة..
كان سعيد خوري صديقا للرئيس محمود عباس فقد كانوا لبعض الوقت في رحلة مشتركة.. وكانوا من نفس البلد ،صفد ولم تنقطع صلتهما رغم اختلاف مهمات الحياة، وقد سمعت الرئيس عباس يتحدث عن سعيد خوري باكبار شديد، وبامتنان وشكر على ما قدم لشعبه وقضيته، وقد كتب لذلك مقدمة كتابي عن “صفد ..المملكة الضائعة” وشهادته في سعيد خوري الذي امتدت رعايته لكتبي فطالت ثلاثة منها هي صفد وبيت لحم في طبعتيه العربية والانجليزية..
كنت استمعت ولساعتين متتاليتين قصة حياته ومراحلها المختلفة وذكرياته في صفد وحيفا وطبريا والجامعة الاميركية وسوريا والعراق ومناطق اخرى..
كان حيث المشاريع الكبيرة والطموحة. فكان المساهم الرئيس في بناء شركة مصفاة الوفرة في الكويت، وميناء زايد في ابو ظبي ومدينة زايد الرياضية ومطار بيروت الدولي، ومشروع حقول الغاز في كازاخستان ومصفاة صحار النفطية في سلطنة عمان ومشروع كابيتال تاورز في دبي..
لقد وضع سرّهُ وسلم الراية لولي مسيرته وعهده ابنه سامر الذي حمل الكثير من صفاته واعتز بالكثير من مناقبه ومآثره وما قدم ..
ورغم انشغاله فقد ظل “سعيد خوري” وطنيا فلسطينيا.. ساهم في العديد من المشاريع الفلسطينية والمهتمة بحاجات الفلسطينيين وقد اقام صندوقا يحمل اسمه ليرعى التفوق والابداع وتعليم الاطفال المحتاجين، وسد حاجات الكثير من الأُسر..كان سعيد خوري واحدا من اكبر البنائين في العالم العربي. رحل وهو يعمل.. كان مواظبا.. يسال عن التفاصيل ويهتم بها، كنت أحسده وهو في اواخر الثمانينيات من عمره حين كان يراجع مسودة كتابي عن صفد وبيده قلم رصاص يشير الى كل جملة ومعنى وصورة ويعكف على القراءة وابداء الملاحظة, كان القلم يرتجف بيده ولكنه كان يُصرّ على شطب احدى الصور لسيدة سافرة. قال: ” هذه ليست من صفد، ولا يمكن ان تكون ، فلماذا تضعها هنا في تاريخ ما قبل النكبة؟ ليس لدينا صفديات هكذا.!! اشطبها.!! وتاكدت انها من الارشيف وان احساسه كان صادقا فرفعتها قبل الطباعة..
حين اعطيته كتاب صفد كان مسرورا، وكذلك كتابي عن بيت لحم الذي وصله الى بيروت، وقد رعى بعدها النسخة الانجليزية من الكتاب، ولكن القدر عاجله قبل ان تكون بين يديه بخمسة ايام فقط ..
فجزاه الله خيرا عن كل الذين قرأوها او وصلتهم وعن كل اسهاماته العديدة والعميقة في المسؤولية الاجتماعية التي ظل ينهض بها بوعي واقتدار..
يرحل سعيد خوري ويترك من عمله الكثير وسجلا مليئا وولداً صالحاً يحمل اسمه ويرفع نفس الراية ويسير بها ..
لك الرحمة يا معلم .. يا سعيد خوري.. رحمة من الرب الذي احبك واحببته لجميل صنعك ومن عباد الرب الذي قربتهم من المثل والقيم التي يوفرها العمل المخلص..
ولي شخصيا ان اترحم عليك، وان اتمنى ان تظل مسيرتك في حب الناس ومساعدتهم صاعدة من بعدك ومن خلال ابنائك وبناتك واحفادك..
ترحل … لكنك بقيت الاقرب الى فلسطين والتي خرج رجالاتها لوداعك.. فلتقر نفسك وروحك بسلام.. في ملكوت الله..