تعددت الآراء واختلت حول الأسباب الكامنة في انتشار الغلو والتطرف عند بعض الجماعات التي تطلق على نفسها أنصار الشريعة، أو النصرة، أو داعش، اختصارا لمسمى الدولة الإسلامية، أو غيرها من المسميات، ويرى البعض أن هناك تقصيرا من جانب بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين، في نشر وإبراز الرؤية الإسلامية الصحيحة، والتعاطي الجدي مع ظاهرة الغلو والتطرف في فهم الدين القويم، فالتطرف والتكفير ظاهرة، ليست مع داعش والنصرة وأنصار الشريعة، بل ظهر منذ عقود طويلة بالنسبة لعصرنا الراهن، وعندما ظهرت جماعات العنف السياسي في مصر منذ عدة عقود وقاموا بقتل واغتيال الكثير من السياسيين تحت يافطة إقامة حكم الله في الأرض، لكن الكثير من علماء الأزهر والجامعات الأخرى، ومنهم الشيخ/ محمد الغزالي، تحركوا لدحض هذا الفكر بالحوار والنقاش، فقد كانوا يلتقون بشباب هذه الجماعات في السجون، ويتم إلقاء محاضرات فيهم، ومحاورتهم في الأفكار التي يحملونها وكانت تنقل هذه الحوارات في القنوات التلفزيونية، وتحققت نتائج كبيرة في الفكر المغالي عند هؤلاء، وفعلا أصدرت قياداتهم رسائل وبحوثا، سميت بـ(المراجعات) وخرجوا من السجون وتخلوا عن أفكارهم المتطرفة، ولذلك الحوار والتحرك الفكري الجدي، لتوضيح حقائق الإسلام الصحيحة من الخطوات المهمة لوقف انتشار هذا الفكر المغالي.
لكن البعض يرى انتشار التطرف والتكفير في بعض البلاد العربية، كان بسبب الاستبداد والقمع والإقصاء، وهو الحاضنة الأساسية للتطرف الذي برز في عصرنا الراهن، والأرض الخصبة لانتعاش هذا الفكر في دول بعينها، لذلك فإن التعامل العادل، وروح السماحة، وفتح باب الحوار من الأسس القوية والهامة، لإبعاد فكر التطرف والغلو، وقد تكون هناك أسباب اقتصادية ونفسية واجتماعية، لكن يظل التسامح والممارسة العادلة والحوار من أهل الاختصاص من أهم روافد القضاء على فكر التطرف والتكفير.
لأن فقه هؤلاء ـ كما يقول العلامة د/ يوسف القرضاوي في كتابه القيم (فقه الجهاد)، “فقه أعوج، وفهم أعرج، يعتوره الخلل والخطل من كل جانب، ويحتاج من فقهاء الأمة إلى وقفة علمية متأنية، لمناقشتهم في أفكارهم هذه، والرد عليهم فيما أخطأوا فيه، في ضوء الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وإجماع الأمة”.
فهناك خلل في فقه الجهاد والنظرة إلى غير المسلمين، واعتقادهم في وجوب قتال كل الكفار، وهناك خلل في فقه تغيير المنكر بالقوة، وماله من شروط يجب أن تراعى، وهناك خلل في فقه الخروج على الحكام.
ولقد حذر رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ـ كما يشير د/ القرضاوي ـ من الأعمال الطائشة والتصرفات الرعناء، التي قد يقوم بها بعض الناس الطيبين، بنوايا حسنة، وبواعث نبيلة، دون أن ينظروا في مآلاتها، ويفكروا في وخيم عواقبها، وذلك لقصر نظرهم، وضيق أفقهم، فما لم يتنبه المجتمع لهم، ويأخذ على أيديهم، ويمنعهم من الاستمرار في تفكيرهم الأخرق، فإنهم سيودون بالمجتمع كله، وينتهي بهم طيشهم إلى هلاكهم وهلاك الجماعة كلها معهم.
ولذا حذر الرسول الكريم، الجماعة – ممثلة في أهل البصيرة وأولي العلم والحكمة – أن تتيقظ لهم، وتأخذهم على أيديهم، وتمنعهم من تنفيذ ما فكروا فيه، وعقدوا عليه العزم، حفظاً لوجود الجماعة كلها، وحرصاً على حياتها وحياتهم معها”.
إن للتكفير مخاطر عديدة ومحاذير جمة، كما يقول الشيخ/ حسن الخشن، “وانعكاسات سلبية على المكفِّر والمكفَّر، الأمر الذي يستدعي التروي في الإقدام عليه والخوض فيه، فمضافاً إلى أن إخراج شخص من الدين ورميه بالكفر هو معصية كبيرة وذنب عظيم لا يرتكبه المسلم الذي يريد الاحتياط لدينه، فإن له مضاعفات عديدة على الشخص المكفر وعائلته وذويه، لأنه – أعني بالتكفير – يستتبع الحكم بارتداده وإهدار دمه وماله والتفريق بينه وبين زوجته، ومعاملته معاملة الكفار لجهة الميراث والزواج وغيرهما، بما في ذلك ترك الصلاة عليه بعد موته ومنع دفنه في مقابر المسلمين، وذلك سيؤدي إلى محاصرته وعزله نفسياً واجتماعياً ونبذه من قبل المسلمين وترك التعامل معه، وتزداد عزلته إذا قلنا بنجاسته وحرمة ذبائحه وترك مؤاكلته كما عليه جمع من فقهاء المسلمين.
يقول الإمام تقي الدين السبكي، وهو من أعلام القرن الثامن للهجرة في إجابة له عن سؤال عن حكم تكفير المبتدعة وأهل الأهواء: “اعلم أيها السائل أن كل من خاف الله عز وجل استعظم القول بالتكفير لمن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، إذ التكفير هائل عظيم الخطر، لأن من كفر شخصاً بعينه فكأنما أخبر أن مصيره في الآخرة جهنم خالدا فيها أبد الآبدين، وأنه في الدنيا مباح الدم والمال، لا يمكن من نكاح مسلمة ولا يجري عليه أحكام المسلمين لا في حياته ولا بعد مماته. والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطر في سفك محجمة من دم امرئ مسلم. وفي الحديث، “لأن يخطئ الإمام في العفو أحب إليّ من أن يخطئ في العقوبة”.
إن تلك المسائل التي يفتى فيها بتكفير هؤلاء القوم في غاية الدقة والغموض، لكثرة شبهها واختلاف قرائنها وتفاوت دواعيها. والاستقصاء في معرفة الخطأ من صنوف وجوهه، والاطلاع على دقائق التأويل وشرائطه، ومعرفة الألفاظ المحتملة للتأويل وغير المحتملة تستدعي معرفة جميع طرق أهل اللسان من سائر قبائل العرب في حقائقها ومجازاتها واستعاراتها، ومعرفة دقائق التوحيد وغوامضه، إلى غير ذلك مما هو متعذر جداً على أكابر علماء عصرنا، فضلاً عن غيرهم. إذا كان الإنسان يعجز عن تحرير معتقده في عبارة، فكيف يحرر اعتقاد غيره عن عبارته؟! ويقول العلامة الشوكاني: “اعلم أن الحكم على رجل مسلم بخروجه عن دين الإسلام ودخوله في دين الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه، إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه، يا كافر، فقد باء بها أحدهما.
الحلول العسكرية والأمنية وحدها، لن تحل مشكلة التطرف والإرهاب أبدا، وإذا خسر جولة، فإنه سرعان ما يعود بأقوى مما كان عليه بالسابق، وهذا ما ظهر مع بروز جماعة داعش وأنصارها في العراق وسوريا.
عبدالله العليـان/هل هناك تقصير في فهم الإسلام؟
14