كانت تونس ولا تزال حتى الآن الاستثناء في ثورات الربيع العربي. مرت مثل غيرها بمآزق واختناقات كثيرة على مدى ما يقرب من أربع سنوات. لكنها خرجت من كل واحد منها بسلام. لم تخرج بالأيديولوجيا، ولا بالبارود، وإنما بالسياسة والحوار. في تونس هناك الكثير من السياسة والحوار. وهذا استثناء آخر في منطقة تخاف من السياسة، وتتوجس من الحوار ونتائجه. من هنا نجحت أولاً في إدارة المرحلة الانتقالية بعد الثورة. ثم نجحت في صوغ دستور جديد يتوافق عليه الجميع بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم الحزبية والأيديولوجية والسياسية. ونجحت ثالثاً في أول انتخابات برلمانية على أساس من الدستور الجديد، وتدشيناً للجمهورية الثانية. ولن يكتمل النجاح إلا بعد الانتخابات الرئاسية المنتظرة في أواخر هذا الشهر.
لا سبيل للمقارنة هنا مع اليمن وسورية وليبيا. فظروف كل واحدة من هذه الدول الثلاث، ومآلات الثورة فيها تختلف في شكل جذري. لنأخذ بدلاً من ذلك مثالاً أقرب: مصر ونسأل: لماذا فشلت مصر في ما نجحت فيه تونس؟ مصر أكبر بلد عربي، وصاحبة أقدم إرث للدولة، وأول من أطلق شرارة النهضة في العالم العربي. لذلك وعلى رغم أن الربيع انطلق من تونس، إلا أن «ميدان التحرير» في القاهرة هو الذي استحوذ على المشهد في المنطقة وتحول إلى أيقونة سياسية لثورات الربيع. لكن جاء الفشل المصري بالحجم التاريخي نفسه، وبالأصداء ذاتها. وكانت تونس تحفر تحت الظل لنجاح ستحسدها عليه كل الدول التي مر بها الربيع.
يمكن إعادة نجاح تونس وفشل مصر إلى ثلاثة عوامل. في مصر هذه العوامل هي: الحضور القوي للجيش، وفشل «الإخوان»، وضعف المجتمع المدني. في المقابل، كانت العوامل في تونس هي: غياب الجيش، ونجاح حزب «النهضة»، وقوة المجتمع المدني وحيويته. لنتفق منذ البداية على أن المعيار الذي على أساسه يمكن قياس النجاح والفشل هنا هو نجاح المرحلة الانتقالية في تحقيق التوافق بين القوى السياسية، وإنجاز دستور جديد يؤسس لمرحلة ما بعد الثورة، ومدى هيمنة السياسة والأداء السياسي على هذه المرحلة. والمعيار الثاني هو حجم الانتقال الذي تحقق في نهاية المرحلة الانتقالية قياساً بما كان عليه الأمر قبل الثورة.
انطلاقاً من ذلك، وفي حال مصر، نجد أن أول ملاحظة تفرض نفسها هي الحضور الطاغي للجيش في المشهد منذ اليوم الأول للثورة، وحتى هذه اللحظة. ظلت هذه المؤسسة طرفاً أساسياً في كل الأحداث التي أعقبت انفجار الثورة. فالجيش هو الذي فرض تنحّي الرئيس حسني مبارك، وهو الذي تولى السلطة بعد تنحي الرئيس، وتولى إدارة المرحلة الانتقالية. والجيش هو الذي سلّم الدولة لـ «الإخوان» بعد فوزهم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وهو الذي انقلب على «الإخوان» بعد ذلك، واستعاد الدولة منهم. هناك تفاصيل كثيرة ومملة لتلك الأحداث الكبيرة. ومهما كان الاختلاف أو الاتفاق حولها، فإن الدلالة السياسية لحضور الجيش فيها واضحة. فالثورة حصلت في قلب الدولة التي بناها هذا الجيش وهيمن عليها منذ 1952. في هذا الإطار، وعلى مدى أكثر من ستة عقود، تحول الجيش المصري من مؤسسة عسكرية مهنية من بين مؤسسات الدولة إلى طبقة حاكمة موجودة بنفوذها داخل الدولة وخارجها. المؤشر الأول لذلك هو أن الضباط هم الذين يتولون الحكم في الدولة. فإلى جانب أن رئيس الجمهورية بسلطاته الشمولية، ووزيري الدفاع والداخلية هم عادة من المؤسسة العسكرية، يتوزع رجال المؤسسة ذاتها على الكثير من محافظات الجمهورية، والكثير من المناصب في مختلف مؤسسات الدولة. المؤشر الثاني أن قرارات الدولة السياسية، بما في ذلك التعيينات في المناصب الكبيرة لغير العسكر خاضعة لموافقة المؤسسة. والمؤشر الثالث والأهم هو تمدد نفوذ المؤسسة إلى المجال الاقتصادي. فالجيش يملك ما بين 30 و40 في المئة من الاقتصاد المصري. ولذلك يستأثر متقاعدو المؤسسة العسكرية بغالبية المناصب العليا في مؤسسات القطاع العام وشركاته. بل تمدد نفوذ المؤسسة العسكرية إلى شركات القطاع الخاص ابتداء مما كان يعرف بالانفتاح في عهد الرئيس أنور السادات. تحول الجيش من مؤسسة عسكرية مهنية متخصصة إلى طبقة على هذا النحو جعلت منه طرفاً سياسياً له مصالح سياسية واقتصادية كبيرة ومتشعبة تبدأ بضرورة الإمساك بالحكم حفاظاً على مصلحة الطبقة، لتمتد من داخل مؤسسات الدولة الرسمية إلى المجتمع. وبالتالي، فإن الثورة على الدولة هي في الواقع ثورة على هذه الطبقة قبل غيرها.
لم يستوعب «الإخوان» بعد وصولهم الى الحكم في حزيران (يونيو) 2012 حجم موقع الجيش وتبعاته ودوره في الدولة. وهذه أولى علامات فشل «الإخوان». وهذه مفارقة محيرة. فإلى جانب أنهم القوة الموازية شعبياً للجيش، تمتد خبرة «الإخوان» في التعامل مع هذا الجيش الى أكثر من 60 سنة. ومع ذلك تصرف «الإخوان» بغباء سياسي منذ اليوم الأول وكأن دور الجيش تراجع، ولم يعد له من خيار إلا قبول الواقع الذي أفرزته الثورة. العلامة الثانية على فشل «الإخوان» جنوحهم بتأثير إغواء الشعبية التي حصدوها للاستفراد بالدولة، والحلول في ذلك محل الجيش. هكذا ببساطة. لم ينفتحوا على القوى الأخرى التي كانت في الأصل مناهضة للجيش. بل إنهم، وهذه العلامة الثالثة، لم يستوعبوا تغير المزاج الشعبي ضدهم بعد الإعلان الدستوري الكارثي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012. وبالنتيجة عزل «الإخوان» أنفسهم وأصبحوا في مواجهة الجميع تقريباً، ما سهل مهمة الجيش بإزاحتهم عن الحكم.
هناك عامل آخر سهّل مهمة الانقلاب، وهو ضعف الطرف الثالث في العملية السياسية، أو قوى المجتمع المدني. وهذا واضح من الذعر الذي أصاب هذه القوى من وصول «الإخوان» الى الحكم. كانوا يفتقدون القاعدة الشعبية، ولا يستطيعون منافسة الجيش و «الإخوان»، لا سياسياً ولا فكرياً. لم تكن تملك هذه القوى إلا النواح من هيمنة «الإخوان». مواقف «الإخوان» وسياساتهم الإقصائية ساهمت في مضاعفة ذعر هؤلاء. والأرجح أنه لهذا السبب سارعت القوى المدنية إلى الاحتماء بالجيش ودعم تحركه لإزاحة «الإخوان». ولعل من الواضح أن اللجوء الى هذا الخيار مؤشر الى مدى ضعف هذا الطرف الثالث في العملية التي برر خيارها بخطاب هزيل تميز بنشر كراهية «الإخوان» وتمجيد الجيش.
عندما نأتي إلى تونس نجد صورة معاكسة تماماً. فالجيش لم يكن حاضراً في العملية السياسية، لا قبل الثورة ولا بعدها، إلا بصفته مؤسسة عسكرية مهنية صغيرة يكاد دورها يكون محصوراً في هذا المستوى. لم تقترب في أية لحظة منذ الاستقلال من أن تتحول إلى طبقة حاكمة. وعلى خلفية ذلك ظل الجيش منذ عهد الرئيس بورقيبة بعيداً من القرار السياسي. وهذا ينسجم مع الإرث المدني الذي رسخه هذا الرئيس خلال فترة حكمه الطويلة. وقد حافظت القوى التي جاءت بعد الثورة على بقاء دور الجيش كما هو. وسواء حصل هذا تمسكاً بالصفة المدنية للدولة، أو خوفاً من تغول العسكر، فالنتيجة واحدة لمصلحة الدولة والثورة معاً. من الناحية الأخرى يختلف حزب «النهضة» عن إخوان مصر سياسياً وأيديولوجياً. سياسياً تمسكت «النهضة» بمبدأ الحوار، وتعزيز دورها بالتحالف مع قوى مدنية لا تنتمي الى الإسلام السياسي. بل لم تتحالف مع السلفيين كما فعل «إخوان» مصر. إلى جانب ذلك، وعلى عكس ما فعل «إخوان» مصر أيضاً، تجنبت «النهضة» دخول السباق الرئاسي في المرحلتين الانتقالية والحالية. أيديولوجياً تميز موقف «النهضة» بثلاثة أمور: التمسك بمدنية الدولة، وبمبدأ ضرورة التحالف بين القوى الإسلامية والعلمانية باعتباره الجسر الوحيد الذي يحفظ الاستقرار، ويحمي الحقوق، ويسهل عملية الانتقال إلى مرحلة الدولة. والأمر الثالث تخلي «النهضة» عن شرط مرجعية الشريعة في الدستور، والاكتفاء بالصفة الإسلامية الواسعة الدولة. وهذا، الى جانب عوامل أخرى، سهّل نجاح المرحلة الانتقالية. ولعل أبرز الإنجازات في هذا السياق كان التوافق على دستور جديد يؤسس لدولة مدنية هي امتداد لدولة ما قبل الثورة، وسياسياً تختلف عنها في أنها دولة ديموقراطية تعددية.
طبعاً لم يكن من الممكن تحقيق ذلك من دون مساهمة القوى المدنية التي تميزت عن نظيرتها في مصر. وأوضح مؤشر على قوتها وتميزها هو الدور الذي لعبه اتحاد قوى الشغل في المرحلة الانتقالية. فمع أنه أكبر نقابة مهنية في تونس، إلا أن الاتحاد نأى بنفسه عن الصراع السياسي، واكتفى بدور القوة الموازنة للجميع التي تعمل على حماية حقوق من تمثلهم، وتدفع باتجاه تأكيد صفة مدنية الدولة وتعدديتها. والنتيجة الواضحة حتى الآن أن تونس اختارت أن تبتعد من دولة ما قبل الثورة إلى دولة يتنافس النفوذ فيها «النهضة» بمرجعيته الدينية، و «نداء تونس» بمرجعيته العلمانية. وفي هذا اختبار للاثنين معاً في اجتراح نموذج سياسي جديد يزاوج بينهما. أما في مصر فيبدو أنها تعود على يد الجيش إلى دولة ما قبل الثورة. السؤال الآن: هل ينجح إسلاميو تونس وعلمانيوها على المدى الطويل في ما فشل فيه مقابلهما في المشرق العربي؟
* اكاديمي وكاتب سعودي