عروبة الإخباري –
شكلت السردية الصهيونية لانشاء الدولة اليهودية مرجعية سياسة وثقافية للرؤية الغربية بشكل خاص والعربية بشكل عام للموضوع الفلسطيني. ومع غياب الرؤية العربية لاسباب كثيرة انفردت الرواية الصهيونية بالعقل العربي. وتعزز هذا الانفراد بالبراغماتية الاستعمارية التي تقوم على تحقيق المصالح حتى ولو على حساب الحقيقة التاريخية. وشكلت ابعاد خمسة المقومات المركزية للسردية الصهيونية متمثلة في الاّتي :
اولاً: السردية الدينية
ثانياً: السردية اللاسامية
ثالثاً: سردية الهولوكوست ( المحرقة ) وعقدة الذنب
رابعاً: سردية الاشتراكية والتحرر الوطني
خامساً: التوظيف البراغماتي للقوى الاستعمارية
إن المتتبع لمسار الحركة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين لا بد وان يتساءل عن السر في سهولة تقبل الدول الغربية لهذا المشروع وابداء استعدادها الكامل لتقديم كل ما يحتاج تنفيذه من مساندة ودعم سواء كان ذلك بالمال أو بالسلاح أو حتى بالمتطوعين، في حين أن هذه الدول لم تبد أي اهتمام أو اكتراث بمصير الشعب الفلسطيني صاحب الأرض وساكنها الأصلي.
وفور البدء بهذا المشروع أعاد الصهاينة مراجعة التاريخ اليهودي فأدخلوا عليه تعديلات جوهرية بحيث جعلوا تاريخ العبرانيين القدماء وتاريخ الصهيونية تاريخا واحدا يكمل الواحد منهما الاّخر، ثم أخذوا يروجون لادعاءات ومزاعم تاريخية تدور حول الانتصارات الباهرة التي عزيت ل “العبرانيين القدماء” والتي قيل انهم حققوها ضد أعدائهم من أبناء القبائل الكنعانية، وذلك كله من أجل شحذ الهمم وبعث الحافز والحماس لدى عامة اليهود كي يتقمصوا صفات أولئك الاجداد التي كان الصهاينة يروجون لها كالشجاعة والقوة والثقة بالنفس، وذلك لتحفيز أكبر عدد من هؤلاء اليهود للهجرة الى فلسطين والاستيطان فيها والبدء بتنفيذ مشروع الدولة اليهودية على أرضها. ولعله من الضروري الاشارة هنا إلى أن أطماع ومطامح الصهاينة لا تتوقف عند احتلال فلسطين وحدها، بل إنها تتعدى ذلك لتشمل المزيد من الأراضي العربية التي تعتبر – في نظرهم – جزءاً لا يتجزأ من الأرض الموعودة التي وهبها الرب لهم دون غيرهم بصفتهم “شعب الله المختار”، وهي تمتد – كما وصفها هرتزل للقيصر الألماني أثناء لقائهما في الاّستانة عام 1898 – عبر الأراضي الواقعة بين نهري النيل والفرات شاملة الجزء الشرقي من مصر إضافة الى شبه جزيرة سيناء وشمال غرب الجزيرة العربية ونافذة مطلة على الخليج إضافة الى الأجزاء الجنوبية من العراق وبلاد الشام بما فيها جنوب لبنان والأردن وفلسطين (Herzl, Diaries, Vol II). كما أخذ الصهاينة يروجون وينشرون بين عامة اليهود بأن استقرارهم في فلسطين وإقامة دولة لهم فيها سيحررهم من عقدة البؤس والمعاناة التي لازمتهم طيلة العصور التاريخية والتي جعلتهم يلجأون الى العزلة في الأماكن التي كانوا يتواجدون فيها، حيث كانوا يقيمون ضمن تجمعات خاصة بهم تؤمن لهم الابتعاد عن الحياة العامة وعدم الاختلاط بشعوب البلاد التي كانوا يقيمون بين ظهرانيها وذلك من أجل تأمين مصالحهم وتطلعاتهم الذاتية بشكل أكثر أماناً واستقراراً. ولذا فلا عجب أن نرى الصهاينة يبادرون الى الاحتفاء ” برموزهم” التاريخية التي استرجعوها من الماضي العبري القديم وادعوا أنها صاحبة انجازات يطولية كبرى، شهد لهم التاريخ – حسب ادعاءاتهم – بأنهم حققوا انتصارات مذهلة جعلتهم يتبوأون شأواً عالياً بين القبائل والشعوب التي كانت معاصرة لهم، واستحوذت هذه الرموز على القيمة الأسمى في الوجدان اليهودي مما كان لها أكبر الأثر في تفعيل الطموحات الصهيونية والسلوك العدواني تجاه الاّخرين.
وقد استرسل الصهاينة في نشر المزيد من ادعاءاتهم التاريخية ولا سيما تلك المتعلقة بالميثولوجية التي لا يقرها أي مفهوم علمي، كادعائهم – على سبيل المثال – بوجود “أمة يهودية” قائمة على مر العصور بسبب “وحدة التكوين الروحي” لليهود و”ماضيهم التاريخي الواحد” مدعين أنها أمة ثابتة عبر التاريخ. غير ان التأمل البسيط في هذه المقولات ولا سيما مقولة “الأمة اليهودية” التي تدعي ان هذه الأمة “ظلت تنتظر وترنو ببصرها الى صهيون طيلة ألفي عام للعودة إليه وبناء دولتها على أرضه”، يظهر لنا أن هذه المقولة لا يمكن ادراجها الا ضمن تلك “التزييفات الفاضحة” التي وجدت بشكل أو باّخر مسارب لها في سجل تاريخ البشرية. فإذا ألقينا نظرة سريعة على طبيعة الحياة التي كان يعيشها قدماء اليهود، يتبين لنا أن مجمل ما حصل في تلك الفترة لا يعدو أن يكون قيام كيان يماثل في معالمه الأساسية تلك الدويلات التي كانت تقوم وتنشأ في عهد العبودية. فقد كان ذلك العهد هو عهد الحروب القبلية المتواصلة التي كانت “تنشب من أجل النهب وامتلاك العبيد والاستيلاء على أفضل الأراضي”. وكانت أشكال الدول تتعاقب والأقوام والقبائل تتخالط فيما بينها وتنتقل للعيش من بقعة الى أخرى في البلدان المجاورة.
ومما ساعد الصهيونية في سهولة تقبل الدول الغربية لمسعاها ومراميها الهادفة الى انشاء الدولة اليهودية هو تلك الأجواء الدينية التي كانت سائدة في أوروبا في أعقاب ظهور حركة الأصلاح الديني وتزايد الأنشطة والأفكار المتهودة التي اصبحت تشكل جزءاً أساسياً من النسيج الثقافي الغربي بحيث تحولت فلسطين فجأة في نظر العديد من المذاهب البروتستانية والكلفينية منها بشكل خاص الى أرض وصفها المبشر البريطاني، اللورد شافتسبوري، بأنها “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” وادعى بأن اليهود هم الشعب الذي وهبه الرب حق، استيطان تلك الأرض، حيث أنهم يشكلون حجر الزاوية في الخطة الإلهية لتحقيق الحلم المسيحي في الخلاص الابدي. وقد تبنى هذا المعتقد الديني الانجيليون البيوريتانيون الذين عرفوا باسم “المسيحيين المتهودين” او “الصهاينة المسيحيين”، وهم سبقوا بظهورهم ظهور الصهيونية اليهودية التي يعود تاريخها فقط الى مؤتمر بال عام 1897. وهكذا فاننا نجد أن انحياز الدول الغربية كبريطانيا وأمريكا للصهيونية وإسرائيل فيما بعد انحياز أساسه لاهوتي وثقافي وليس مجرد انحياز استراتيجي أو مجرد انحياز بتأثير اللوبي اليهودي (رضا هلال، المسيح ونهاية العالم). ويعتبر اليهود – في نظر هذه المجموعات المتهودة – هم الفلسطينيون الحقيقيون الذين ينتشرون في العالم غرباء عن وطنهم بانتظار “عودتهم” اّجلا او عاجلا.
وهكذا أصبحت حكايات العهد القديم زادا يوميا للعقل البروتستانتي، وقد وصفت باربرة توخمان هذه الحكايات بأنها “غزو عبراني” و “لوثة العهد القديم” (Barbara Tuchman, Bible And Sword)، ويبدو هذا واضحا في المواقف الفكرية الصادمة التي كان يتبناها العديد من المفكرين الاوروبيين أمثال المبشر البريطاني شافتسبوري، كجون لوك صاحب المقولة “ان الرب قادر على جمع اليهود في كيان واحد. وجعلهم في وضع مزدهر في وطنهم”، أو اسحق نبوتن، صاحب قانون الجاذبية، الذي توقع أن الرب سيأمر بتدخل قوة أرضية من أجل إعادة اليهود المشتتين، أو جون جاك روسو، صاحب العقد الاجتماعي، الذي قال ” لن نعرف الدوافع الداخلية لليهود أبدا حتى تكون لهم دولتهم الحرة ومدارسهم وجامعاتهم ” أو جون ملتون الذي تحدث عن عودة اليهود الى فلسطين في قصيدته المشهورة “الفردوس المستعاد”، أو اللورد بايرون الذي تصدرت مجموعته الشعرية “الألحان العبرية” قصيدته المشهورة “إبكِ من أجل هؤلاء” ( اليهود )، أو جورج إليوت، صاحب الرواية المشهورة “دانيال ديروندا ” وهي الرواية التي وصفت بأنها كانت تجسد المسيحية الصهيونية في الأدب الاوروبي اّنذاك (هلال، المصدر نفسه). وقد عبر لورنس اوليفانت عن هذه الافكار المتهودة بمنتهى الوضوح في كتابه الصادر عام 1880 بعنوان “أرض جلعاد” والذي ضمنه العديد من الافكار والاّراء السائدة اّنذاك في العديد من الدول الغربية ليس عن “الحق التاريخي” لليهود قي فلسطين وما جاورها فقط، وانما ايضا حول ما يتعلق بالعرب بشكل عام وعرب فلسطين بشكل خاص حيث تم وصفهم “بالهمجية والوحشية” وهم بالنسبة لطروحاته الفكرية “غير جديرين بأي معاملة إنسانية فهم يتحملون مسؤولية الخراب والدمار الذي لحق بفلسطين وهم السبب في تدني مستواها وانحطاطها الى هذا الحد” (Lawrence Oliphant, The Land of Gilead). ودعا أوليفانت كغيره من مفكري عصره المتهودين الى تهجير أكبر عدد من عرب فلسطين خارج وطنهم، على ان يتم تجميع من يتبقى منهم و يوضعون في جيتوات كتلك التي كان يعيش فيها غالبية اليهود في اوروبا او في معسكرات كتلك التي أقامها المستوطنون الغربيون للهنود الحمر، ويتولى المستوطنون اليهود استخدامهم واستعبادهم كعمالة رخيصة يتحكمون فيها تماما كما كان عليه حال الأفارقة السود في أمريكا.
وقد استغل الصهاينة هذه الأجواء السائدة في الغرب وخاصة الذرائع الغيبية االدينية المتداولة حول الصلة التاريخية بين يهود العالم و”ارض الميعاد”، وقاموا باستخدام جميع الوسائل المتاحة لديهم لنشر هذه الذرائع من أجل كسب أكبر قطاع ممكن من عامة اليهود لدعم الاهداف التي كانوا يسعون لتحقيقها، وعملوا على تحويلها من مجرد ذرائع وأساطير لاهوتية إلى ممارسة سياسية يستعينون بها لتنفيذ مشروعهم الاستيطاني وحامهم الصهيوني الاستعماري. وقد وجد الصهاينة في ظاهرة العداء للسامية تربة خصبة ووسيلة مناسبة لتحريك الجماهير اليهودية ودفعها نحو إقامة “وطن قومي” لها. وركزوا على ان هذه الظاهرة ليست ظاهرة طارئة وإنما ظاهرة مستمدة من خصائص الانسان الثابتة. ولذا فكراهية اليهود موجودة بين الناس منذ أقدم العصور وفي مختلف الأماكن. وطبقا لرأي ليوبنسكر فان العالم على مر السنين انتابه شعور الخوف من اليهود الذين “ظلوا يعيشون في الدنيا تائهين مشتتين يتجولون عبر القرون التاريخية روحاً بدون جسد “. وقد تناول العديد من المفكرين الصهاينة ظاهرة اللاسامية واعتبروها نوعا من الأمراض المستعصية الحل ولا جدوى من وراء أي عمل لمقاومتها، فهي متأصلة في الطبيعة البشرية بشكل عميق، ولذا فلا عجب – في نظرهم – إذا أضمرت شعوب العالم شتى أنواع الحقد والكراهية تجاه اليهود مما تسبب في تزايد حملات “الاضطهاد والتعذيب” ضدهم. غير أن الغريب في الأمر أن هؤلاء المفكرين لم يعملوا على مقاومة هذه الظاهرة او التعاون والتنسيق مع الفئات المستنيرة من الشعوب التي كانوا يتشاركون العيش معها على استئصال هذه الظاهرة والتخلص من تداعياتها، بل بالعكس فقد وجدوا فيها مادة حيوية لاستغلالها كقوة دافعة للجماهير اليهودية كي تغير مسار هجراتها بعيدا عن اوروبا الغربية وأمريكا وتتحول في النهاية صوب فلسطين (Arther Herzberg, The Zionist Idea). فهرتزل نفسه الذي يعتبر أبو الصهيونية، لم يتوقف في طروحاته عند الموافقة على طروحات المعادين للسامية التي توجه الاتهام الى اليهود بانهم هم الذين يتحملون مسؤولية ظهور اللاسامية، وهذا يتضح من قوله: “حيث لا توجد اللاسامية، فان اليهود يحملونها في سياق هجراتهم… إن اليهود البائسين هم الذين يحملون الى الدول الغربية وبالذات انجلترا بذور العداء للسامية”، بل والاكثر من هذا فإنه كان يتفق مع المعادين للسامية بأن نهاية هذا العداء لا تكون إلا بإخراج اليهود من كافة المجتمعات غير اليهودية وإيجاد وطن لهم خارج القارة الاوروبية (Herzl , Op.cit) . وقد سبق أن لقي هذا التوجه كل الدعم والتشجيع من البرجوازية اليهودية والرأسمالية الغربية التي كانت تسعى للتخلص من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن سوء أوضاع الفئات اليهودية الفقيرة التي كانت تفد الى الدول الغربية من روسيا وباقي أجزاء أوروبا الشرقية. كما أن نجاح تطبيق هذا التوجه او الحل الرامي الى إنشاء كيان يهودي سياسي في فلسطين تحت حماية احدى الدول الأوروبية يهيئ المجال لوجود مستوطنين عملاء لتلك الدول الكبرى يتفانون في خدمة مصالحها الاستعمارية ويدرأون عنها الاخطار التي تحيق بها. وبالاضافة الى ذلك فان هذا الحل كان يتفق تماما مع مصالح الامبريالية الغربية والبرجوازية اليهودية، وتتوفر فيه إمكانية القضاء على مبررات وجود النزعة اللاسامية التي كان من الممكن ان تؤثر على مصالح الفئات البرجوازية اليهودية المقيمة في الغرب والتي تملكها الخوف من إمكانية انضمام عامة فقراء اليهود وخاصة يهود روسيا وأوروبا الشرفية للحركات الثورية والأحزاب اليسارية المناهضة للأنظمة الرأسمالية، مما يلقي ظلالاً من الشك والريبة على وطنية واخلاص اليهود ويهدد الاستثمارات الواسعة التي كانت تمتلكها البرجوازية اليهودية في مختلف الدول الغربية. وقد أدى هذا الى دفع البرجوازية اليهودية وبالتنسيق مع الرأسمالية الغربية للبحث عن مكان خارج القارة الاوروبية تتجه اليه الهجرات اليهودية. وكان مما اورده المفكراليهودي الألماني الأصل موسى هس حول هذا الموضوع قوله : “… إن الامم المسيحية الغربية لن تعارض إطلاقاً إنشاء وطن لليهود في فلسطين طالما ان ذلك يضمن لها التخلص من شعب غريب شاذ يسبب لها مشاكل كثيرة” (Moses Hess, Rome and Jerusalem).
ومن ناحية أخرى، يعزو بعض المحللين أهم الدوافع التي أدت إلى تقبل فكرة الدولة اليهودية بسهولة والمبادرة لدعمها والاعتراف بها إلى نجاح الصهيونية في تحويل قضية المحرقة او الهولوكوست التي تعرض لها اليهود على يد النازيين الى خطاب شعبي يبررون به حقهم الكامل في إخراج دولة يهودية إلى حيز الوجود. ففي حديثه عن الهولوكوست قال بن غوريون : ” ان الدولة اليهودية هي وريثة الستة ملايين من ضحايا المحرقة النازية وهي وريثها الوحيد… اذ أنهم لو عاشوا لكانت أغلبيتهم موجودة الاّن في اسرائيل”. وقد استخدم الصهاينة الهولوكوست من أجل أهداف دعائية ليؤكدوا ” حقهم” في فلسطين. وأصر الصهاينة على أن أي إقرار بالمحرقة هو إقرار بحق اسرائيل في الوجود، وبالتالي فان الربط بين المحرقة وإقامة دولة اسرائيل أصبح لدى الصهاينة أمراً مقدساً كما هو واضح في “إعلان الدولة” حيث جاء فيه: “أثبتت المحرقة التي ارتكبت بحق شعب اسرائيل مؤخرا والتي ذهب ضحيتها ملايين اليهود في أوروبا، ضرورة الحل لمشكلة الشعب اليهودي الذي يفتقر الى الوطن والاستقلال، هذا الحل هو إقامة الدولة اليهودية التي ستفتح أبوابها على مصراعيها لكل اليهود بحيث تصبح لهم هوية في منزلة شعب ذي حقوق متساوية بين شعوب العالم “.
وإضافة الى ما سبق، أخذ الصهاينة يدعون بأن معاناة اليهود من جراء الهولوكوست كانت واحدة من أهم الأسباب التي أدت الى بلورة دعم عالمي لإقامة الدولة اليهودية، كما أن معاناة اليهود على يد النازيين كان لا بد من الحيلولة دون تكرارها حتى ولو كانت سببا في معاناة شعب آخر، و بتعبير اّخر فإن “المأساة اليهودية” التي أحدثتها الهولوكوست تبرر – في نظرهم – احتلال أرض الغير وتشريد شعبه تماما كما حدث لفلسطين وشعبها. غير أن هذه الادعاءات التي يطرحها الصهاينة لتبرير ما تم اقترافه بحق الشعب الفلسطيني من ظلم واضطهاد يتناقض تماما مع السياق التاريخي للأحداث، فالحركة الصهيونية كانت تسعى جاهدة وبتنسيق وثيق مع القوى الامبريالية لاقتلاع الشعب الفلسطيني من ارضه وإقامة الدولة اليهودية على أنقاضها وذلك قبل حدوث الهولوكوست بأمد بعيد. وجاء استخدام الهولوكوست ضمن استراتيجية الدولة اليهودية لترسيخ “عقدة الذنب” في الضمير العالمي ولا سيما ضمير العالم الغربي بحجة تقاعسه عن مد يد العون لليهود لانقاذهم من اضطهاد النازيين (جوزيف مسعد، ديمومة المسألة الفلسطينية)، وسعى واضعوا هذه الاستراتيجية الى اقناع الكثير من دول العالم ومن ضمنها الاتحاد السوفييتي بأن الطريقة العملية لتحرير ضمير العالم من “عقدة الذنب” تجاه اليهود هو الاعتراف بانهم يستحقون كياناً مستقلاً يلبي طموحاتهم ويوفر لهم الحماية من التعرض لمزيد من”المعاناة” كتلك التي تعرضوا لها على يد النازيين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فان تحرير الضمير العالمي لن يكتمل – في نظر واضعي هذه الاستراتيجية – ما لم تستمر دوله والغربية منها بالذات في تقديم كل أشكال الدعم للدولة اليهودية سواء كان ذلك دعما ماليا او دعما عسكريا. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الدولة اليهودية أصبحت تستخدم الهولوكوست كوسيلة ابتزاز للعديد من الدول وخاصة الغربية منها (أمين محمود، الاتحاد السوفييتي وتأسيس دولة اسرائيل).
وفي الوقت الذي كانت فيه الصهيونية توثق علاقاتها مع قوى الاستعمار الغربي، كانت هناك مجموعات من بينها تطرح المشروع الصهيوني كمشروع تحرر وطني ذي توجهات اشتراكية وملتزم بمحاربة الامبريالية الغربية ونظامها الرأسمالي الاستعماري. وقد لقي هذا الطرح ذو المسحة الاشتراكية صدى ايجابيا لدى الاتحاد السوفييتي الذي كان يامل ان تقوي الدولة اليهودية، فيما لو تبنت فعلا النهج الاشتراكي، النفوذ السوفييتي في الشرق الاوسط. كذلك كان يراود السوفييت الأمل في أن يتحقق هذا الطرح “الاشتراكي” بأن تتحول اسرائيل الى دولة اشتراكية وتصبح مثالا تحتذي به باقي أقطار المنطقة. وكان الصهاينة يدركون ان بقاء واستمرار الدولة اليهودية الجديدة يعتمد الى حد كبير على تدفق هجرات يهود العالم اليها. ونظراً لوجود نسبة كبيرة من اليهود الذين كانوا يعيشون اّنذاك ضمن الكتلة السوفييتية، فقد قام هؤلاء الصهاينة بإقناع السوفييت أن بمقدورهم استثمار هذا العدد الكبير من اليهود في أراضيها كقوة ضغط سياسية لضمان استقطاب الدولة اليهودية إلى جانبهم، كما بدا للسوفييت ان بمقدورهم استخدام اليهود السوفييت المهاجرين إلى إسرائيل كحصان طروادة لتهريب عناصر شيوعية موالية لموسكو الى الشرق الاوسط. ومما شجع السوفييت ايضا على اتخاذ موقف مؤيد وداعم لقيام الدولة اليهودية هو كون معظم قادتها اّنذاك من أصول روسية او بولندية مما زاد من احتمالات تبنيها سياسة متعاطفة ومؤيدة للاتحاد السوفييتي (Arnold Krammer, The Forgotten Friendship).
ولا بد عند هذا الحد من الإشارة إلى أنه مهما بالغ الصهاينة في الترويج لمزاعمهم بشأن الدور المحوري الذي قامت به قواهم دون غيرها لتنفيذ مشروع الدولة اليهودية، إلا أن هذا في حد ذاته لا يمكن ان يكون باي شكل من الأشكال هو الأساس المحوري الذي قامت عليه هذه الدولة. فقد كان لصراع القوى الكبرى حول مناطق النفوذ في الشرق الأوسط تداعيات متلاحقة على بلورة الفكرة الصهيونبة وتسابق هذه القوى على تجسيد هذه الفكرة والترويج لها، بحيث اخذت هذه الدول تتنافس على التقرب من الصهيونية وتعمل على توظيفها من أجل تحقيق أطماعها وطموحاتها في الشرق الاوسط. ولم تقتصر هذه القوى على الامبريالية الغربية وبالذات بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وانما اشتملت أيضا على الاتحاد السوفييتي الذي برز في أعقاب الحرب العالمية الثانية كواحد من اكبر قوتين عالميتين الى جانب الولايات المتحدة.