أيقونات ثورية || وديع حداد || الرجل الذي هز العالم || ولد في 21/7/1928 في مدينة صفد وتلقى دروسه الابتدائية في صفد، والثانوية في حيفا، التحق بالجامعة الأميركية في بيروت سنة 1946 لدراسة الطب. والتقى جورج حبش القادم من مدينة اللد لدراسة الطب أيضاً.
انعقدت أواصر عدد من طلاب الجامعة على تأسيس حركة سياسية تتبنى العنف وسيلة لتحقيق غاياتها النبيلة. وكانت المجموعة التأسيسية مؤلفة من جورج حبش ووديع حداد وصالح شبل (من فلسطين)، وهاني الهندي (من سورية)، وأحمد الخطيب (من الكويت)، وحامد الجبوري (من العراق) وحمد الفرحان (من الأردن) ولم يكد العام 1965 يطل حتى كان هؤلاء وغيرهم قد أسسوا حركة القوميين العرب.
بعد تخرجه في كلية الطب غادر مع رفيقه جورج حبش الى الأردن، وافتتحا عيادة واحدة لمعالجة اللاجئين. وقد اعتقل في نيسان 1957 بعد الانقلاب على حكومة سليمان النابلسي، وامضى ثلاث سنوات في سجن الجفر الصحراوي، ثم استطاع ان يهرب الى سورية في سنة 1961.
أحد القادة المؤسسين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقائد «المجال الخارجي» فيها الذي دوّخ العالم بالعمليات الخاصة مثل عملية مطار اللد في سنة 1972، وعملية اقتحام مؤتمر منظمة أوبيك في فيينا سنة 1975.
من يقرأ سيرتيهما يخال أنهما واحد حلّ في جسدين. او انهما اثنان اجتمعا في سيرة واحدة ومسيرة مشتركة.فلا عجب، والحال هذه، انهما في بداية حياتهما النضالية في الاردن، كانا يعملان في عيادة واحدة، وينامان احياناً في سرير واحد عندما يضيق المكان بالرفاق القادمين من الشام او من لبنان. أمران فقط فرّقا جانبا من شخصيتيهما: اللقب والعمليات الخاصة، فقد انفرد جورج حبش بلقب «الحكيم»، واكتفى وديع حداد بلقب «الخال» علاوة على كنيته «أبو هاني».
لم أعرفه، لكنني رأيته كثيراً ومراراً في ملامح ابنه الصديق هاني حداد، وفي سيماء امرأته أم هاني وسماحة وجهها، وفي التماع العيون لدى ذكر اسمه امام من عمل معه او عاش الى جانبه او رافقه في حقبة التألق العاصف للثورة الفلسطينية المعاصرة. لم أعرفْهُ، لكنني عرفت بالتواتر أنه كان زاهداً وحانياً، وعاش في هذه الدنيا بلا متع ولا حياة خاصة، منصرفاً عنها بكبرياء، راغباً في شأن واحد هو قضية شعبه وقضية تحرير بلاده. كان إنساناً عادياً تماماً، يبكي لفقدان رجاله، لكنه اخلص لشعبه بشكل غير عادي، واعطى وطنه اعمالاً جبارة، فمنحه هذا الشعب احتراماً فائقاً وتبجيلاً يليق به.
أكلتُه المفضلة «كوسى محشي وورق عنب»، ويطرب لأصوات وديع الصافي ونصري شمس الدين وصباح وفيروز. ها هو إذا ابن صفد الرابضة فوق جبل الجرمق لم تغيره «حداثة» بيروت، فبقي جليلياً في جوهره، وصفدياً في صميمه.
في 8 أيلول 1970، بينما كان وديع حداد موجوداً في مطار «داوسن فيلد» في الأردن، منهمكاً في مقارعة العالم لإطلاق أسرى فلسطينيين بعدما اختطف رجاله أربع طائرات في يوم واحد، قام أحد الفلسطينيين في البحرين، من تلقاء نفسه، باختطاف طائرة تابعة للخطوط الجوية البريطانية، وأمرها بالتوجه الى بيروت للتزود بالوقود، ثم التوجه الى مطار عمان. ولما كان وديع حداد لا يعلم أي شيء من أمر هذه الطائرة، فقد ارتاب، وخشي من ان يكون خلف ذلك مكيدة. فطلب برهاناً من الخاطف عن جنسيته وغايته، فما كان من الخاطف إلا ان قال له عبر برج مطار «داوسن»: «كوسى محشي وورق عنب». فانفجر وديع حداد ضاحكاً وقال: «إنه من جماعتنا، فليهبط».
يروى ان اعضاء المجموعة المؤسسة لحركة القوميين العرب اتفقوا على عدم الزواج قبل تحرير فلسطين (ويضيف البعض للتفكهة انهم اتفقوا على عدم الابتسام وعلى عدم ارتياد أمكنة اللهو بما في ذلك المقاهي ايضاً!) لكن، مع قيام الوحدة المصرية ـ السورية، شعروا بأن التحرير يقترب، فراح البعض منهم يتزوج. وعندما هبط وديع حداد دمشق قادماً من الاردن بعدما فرّ من سجنه، وجد ان رفيقه جورج حبش وقريبته هيلدا باتا على أهبة الزواج، وقد تزوّجا بالفعل في سنة 1961. عند ذلك اقدم وديع على الزواج من قريبته سامية نعمة الله حداد، وهي من لاجئي سورية.
أستاذ في «فن العمليات الخاصة»، ومعلم فذ لجيل كامل من المناضلين الأمميين الذي رأوا في العنف الثوري طريقاً للتحرر من الرأسمالية والاستعمار. وكان ملهماً لحركات سياسية كثيرة اعتنقت مبادئ العنف الثوري في مواجهة الاستبداد وعنف السلطات، ولمناضلين كانوا يعرفون تماماً الفارق النوعي بين العنف والإرهاب امثال كارلوس ومحمد بودية وكمال خيربك وفؤاد عوض وباسل كبيسي وجايل العرجا وأنيس النقاش وفايز جابر وغيرهم كثيرون جداً. وامتدت علاقاته من اليابان الى أميركا اللاتينية، من «الجيش الأحمر الياباني» الى «الساندينيستا» في نيكاراغوا، حتى ان جلال الطالباني، الرئيس العراقي الحالي، كان أحد رجاله، وكان له مكان آمن في شاتيلا، وكثيراً ما كلفه جمع معلومات في اوروبا، او ايصال رسائل الى خلاياه المنتشرة في عدد من أصقاع العالم.
كان يقرأ الكتب في حدود ما تتيحه له أوقاته المزدحمة، لكنه كان ميالاً الى العمل المباشر. ويروى أنه في سنة 1963 كان يقرأ كتاب ريجيس دوبرييه «ثورة في الثورة»، لكنه لم يكمل أكثر من 35 صفحة، فقد كان همّه منصباً على كيفية تخزين الأسلحة في داخل فلسطين استعداداً للشروع في العمليات العسكرية. وحين أسس «الجهاز الخاص» في «إقليم فلسطين» التابع لحركة القوميين العرب اختار لمعاونته كلاً من فايز جابر وصبحي التميمي، وهما مؤسسا منظمة «أبطال العودة» سنة 1964، التي انضمّت الى الجبهة الشعبية قبيل التأسيس في سنة 1967.
و«الجهاز الخاص» هو الأب الشرعي لـ«المجال الخارجي» الذي ظهر في إطار الجبهة الشعبية سنة 1968 تطبيقاً لشعار «مطاردة العدو في كل مكان»، ودشن عملياته باختطاف طائرة «إلعال» المتجهة من روما الى تل أبيب، والهبوط بها في مطار الجزائر. على أن اكثر العمليات الخاصة إثارة هي عملية تحرير جورج حبش من سجن الشيخ حسن في دمشق، وهي العملية التي خططها «أبو هاني»، ونفذها في قلب دمشق في 5/11/1968، وشارك فيها كل من أحمد جنداوي ومحمد سعيد (أبو أمل) ومحمود الألوسي (أبو حنفي) وجبريل نوفل (أبو رأفت) وفايز قدورة وزكي هلّو ووداد قمري وآخرين. وتمكن هؤلاء من اختطاف جورج حبش من سيارة للشرطة العسكرية كانت تقله من المحكمة الى السجن.
ومن طرائف ما وقع لوديع حداد، انه في اثناء الاستعداد لقصف ناقلة البترول الإسرائيلية «كورال سي» بالقرب من باب المندب سنة 1971، طلب «أبو هاني» من رئيس الوزراء اليمني الجنوبي محمد علي هيثم زورقاً سريعاً. فقال له ان ليس لدى الحكومة اليمنية مثل هذا الزورق. وبعد عدة أيام اتصل به محمد علي هيثم وأخبره ان مركباً يرسو في ميناء عدن تنطبق عليه المواصفات المطلوبة، فاسرقوه… وهكذا كان.
استشهاده :
في 28 مارس عام 1978 في ألمانيا الشرقية واشيع انه توفي بمرض سرطان الدم. ولكنها بعد 28 عاما اعترفت إسرائيل مؤخرا وعن طريق أحد ضباط مخابراتها الذي كتب جزءا من حياته الاستخبارية بإنها اغتالته بدس السم له في الشيكولاتة عن طريق عميل عراقي كان يشغل منصب رفيع المستوى. ونقلت يديعوت أحرونوت عن المؤلف ان إسرائيل قررت تصفية حداد بداعي تدبيره اختطاف طائرة اير فرانس، كانت في طريقها من باريس إلى تل أبيب، إلىعنتيبي أوغندا عام 1976، وانه كان مسؤولاً عن سلسلة من العمليات الإرهابية الخطيرة.
واضاف: ان الموساد علم بشغف حداد بالشوكولاته البلجيكية التي كان من الصعب الحصول عليها انذاك في بغداد مقر اقامته، فقام خبراء الموساد بادخال مادة سامة بيولوجية تعمل ببطء إلى كمية من الشوكولاته البلجيكية، ارسلوها إلى حداد بواسطة عميل عراقي رفيع المستوى لدى عودة هذا العميل من أوروبا إلى العراق.
أشار المؤلف إلى ان عملية التصفية الجسدية هذه “كانت أول عملية تصفية بيولوجية” نفذتها إسرائيل. وتابع ان إسرائيل اتهمت حداد “الإرهابي المتمرس ومتعدد المواهب” بأنه كان أول من خطف طائرة تابعة شركة الطيران الإسرائيلية “ال- عال” عام 1968 وتم الإفراج عن الرهائن فقط بعد خضوع الحكومة الإسرائيلية لشرطه الإفراج عن أسرى فلسطينيين.
كما اتهمه الموساد بالمسؤولية عن إنشاء علاقات بين التنظيمات الفلسطينية ومنظمات ارهابية عالمية ودعا افرادها للتدرب في لبنان، وكانت إحدى نتائجها قيام “الجيش الأحمر الياباني” “بمذبحة في مطار بن غوريون (تل أبيب) عام 1972“.
ويتابع المؤلف ان اختطاف طائرة “إير فرانس” إلى عنتيبي كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ قرر قادة الموساد وجهاز المخابرات العسكرية على الفور تصفية حداد، وصادق رئيس الحكومة في حينه مناحيم بيغن على العملية.
وأشار الكاتب، الذي عنون كتابه بـ “حساب مفتوح”، إلى ولع حداد بالشوكولاته، خاصةالبلجيكية، وان إسرائيل عرفت كيف تستغل “ضعفه” هذا، واستعانت بعميل للموساد ليحمل معه من أوروبا شوكولاته بلجيكية، ولكن ليس قبل أن يدخل فيها عملاء موساد سمًا بيولوجيًا قاتلاً يظهر اثره بعد اسابيع من تناوله، ويؤدي إلى انهيار جهاز المناعة في الجسم، وأضاف انه بعد تصفية حداد سجل انخفاض حاد في عدد العمليات التي استهدفت إسرائيل في أنحاء العالم. وزاد ان الموساد رأى في عملية التصفية هذه تجسيدا لنظرية “التصفية الوقائية” أو تصفية قنبلة موقوتة تمثلت بـ “دماغ خلاّق لم يتوقف عن التخطيط للعملية المقبلة .
المصدر : الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين