نجّانا الله من الساحرة الشريرة! خلّصْنا يا رب -نحن عشاق الساحرة المستديرة- وارحمنا من ألاعيبها. تلك الشريرة التي تأخذنا على حين غرة وقد تعلّقت الأعين بهدف هنا وتسلل هناك. لا تكشفها إلا الإرادات الحرة والضمائر والعقول المستنيرة. تلك الساحرة المستديرة التي نركلها بأقدامنا ونتصدى لها بصدورنا ونرتقي صوبها عاليا حتى نتمكن من مناطحتها برؤوس نجومنا، كبار الملاعب وأسياد الأولمبياد!
الساحرة التي أكرس هذه السطور لكشف زيفها وتلاعبها بالوعي العام هي تلك الصحافة السّمّاويّة، تلك الصحافة الصفراء التي تقطرُ سمّا عادة ما تدسه في السمن وتغلفه بالعسل المغشوش، وإن كان صافيا ذهبيا، أصفر قد يسرّ الناظرين ويخدع الذوّاقين أيضا.
يفترض في الإعلام السياسي وكله بما فيه الرياضي والترفيهي سياسي بامتياز كان وسيبقى وفي العالم كله، يفترض فيه أن يكون محايدا يتحلى بالفن والذوق والأخلاق، كما في شروط السلامة على الطرق وقيادة الحافلات. من باب أولى في عالم تسوده الروح الرياضية، أن يبتعد عن أعظم الثوابت وأخطر المتغيرات وأعني صراحة الدين وما يرقى إلى منزلته كالوطنية، فيما أقصد بالثانية السياسة وما يدور من فلكها من صنوف التجارة وأشكال الدعاية.
أي إقحام للسياسة والدين في الملاعب وبين الجماهير في أي رياضة كانت، لن ينتهي على خير أبدا. لا يستوي الرفيع الذي يرفع على الرأس ونفتديه بالنفس والنفيس، لا يستوي أبدا مع ما نركله بالأقدام. تلك ظاهرة خطرة، لأن من يحركها ساحرة مستديرة أيضا لا زوايا لها! تلعب بالكل، ضد الكل ولا تكون إلا مع نفسها وفي خدمة أربابها. تلعب بكل من يظنون -واهمين- أنهم قادرين على تدوير مساراتها لصالحهم أو استدارتهم سعيا إلى رضاها، تلك الساحرة الشريرة.
التهييج للمشاعر حتى وإن كانت نبيلة، والتهويش في المواقف وإن كانت عادلة، لا يخدم جمهورا ولا يصنع بطولة في أي ملعب. ميادين السياسة لا علاقة لها لا بالرياضة ولا بالتجارة وقطعا لا بالسياحة!
كما في السياحة التقليدية التي صارت متخصصة، منها العلاجية والبيئية والدينية والتاريخية، ثمة سياحة لا بل وسفارة رياضية. جمهورنا والجماهير التي نتسضيفها في ملاعبنا والجماهير التي نتنافس معها في بلاد الآخرين، يترتب عليه مسؤوليات جسام، عظام في كثير من الأحيان.
أبدأ -كما ينبغي دائما- بتعظيم الإيجابيات. كلنا -في العالم أجمع- وقفنا احتراما لأخلاق الجمهور الرياضي الياباني في جمع القمامة -من أكواب وعبوات بلاستيكية بعد انتهاء مباريات كأس العالم في مونديال قطر مثلا. في المقابل جميعنا -ودون ذكر أي مثال بالاسم تفاديا لمتصيدي الحروب الكلامية حبا في الظهور، أو تنفيسا عن ضغوط نفسية لا علاقة لها بما هو محل نقاش- جميعنا يذكر تلك الفئة الصغيرة، الصغيرة جدا من متسببي شغب الملاعب، حيث يختلط الحابل بالنابل ويخرج نفر شاذ عن القاعدة بممارسات قميئة وهتافات مشينة يندى لها الجبين. يدفع الأمر الفريق الذي يدعون تشجيعه إلى التبرؤ منهم، لكن لسوء الحظ بعد وقوع ما لا تحمد عقباه، كالحرمان م ن الجمهور أو طرد لاعب أو -وهذا هو الأكثر خطورة- وقوع تداعيات لا سبيل إلى عكسها، من بينها أزمات ذات أبعاد قانونية وسياسية، فيما الإعلام الأصفر يبقى محتفظا بأرشيفه الأسود، بكثير مما فعلته الساحرة الشريرة من أفاعيل يعاد ضخها كلما قرر خبيث أو مندس النفخ في الكير مجددا.
الأمل معقود على القائمين على الأندية وعلى الجهات الأمنية والإعلامية المعنية باستضافة تلك الفعاليات، رياضية كانت أم ثقافية ومن بينها الفنية، باتخاذ رزمة من الإجراءات الحازمة التي من الأجدى أن تكون استباقية وقائية رادعة، لقطع دابر الشر قبل وقوعه ومن مصدره أو بالأحرى وكره.
في بريطانيا مثلا تم -منذ عقود- حظر الكؤوس الزجاجية في محيط الملاعب للحيلولة دون استخدامها من قبل بعض الجماهير الرياضية التي تصل الملاعب سيرا على الأقدام وهي مخمورة إلى حد انعدام القدرة على قيادة المركبات.
هنا في بلاد العم سام، يتم التدقيق في التفتيش الالكتروني واليدوي على الجمهور والكادر الرياضي والفني والإداري قبل دخول الملعب، بعد الإعلان مسبقا بشاخصة بعدة لغات، عن حظر كل ما من شأنه تهديد السلامة العامة وإن كانت بحجم دبوس! الأهم من هذا وذاك، أن بعض المدانين أو المشبوهين ممنوعين بأمر قضائي من الاقتراب من أي تجمع جماهيري، فما بالك بالسياحة والسفر!
ربما في مقال آخر، يسمح المقام بالإشارة إلى ما لم يفعله «همّام في أمستردام»!
الساحرة الشريرة!* بشار جرار
10
المقالة السابقة