الجميع مشغول منذ فترة ليست قصيرة بموعد تنفيذ ـ”الرد القاسي” الإيراني الموعود على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس الإرهابية” إسماعيل هنية في قلب طهران، ولكن النظام الايراني ليس مشغولاً بالدرجة ذاتها، لأنه لا يفكر من الأساس في التنفيذ، بل يمارس هوايته المفضلة في “تسخين” الأجواء الاقليمية ووضع العالم على حافة الهاوية وخلق فجوة زمنية تستطيع من خلالها التفاوض لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، التي هي أهم ، بنظرها، من الانتقام لمرتزق فلسطيني ان كان “هنية” أو غيره من المرتزقة الذين راحوا ضحية الارتماء بأحضان إيران.
لا أحد من المتخصصين يصدق أن الولايات المتحدة وإسرائيل مشغولاتان بجدية في مراقبة الاستعدادات الايرانية للرد، فكل مايحدث هو مجرد إجراءات احترازية تحسباً لأي مفاجأة، وهذا أمر طبيعي، ولكن الحقيقة تعلمها جيداً أجهزة الاستخبارات، التي ترضي غرور الإيرانيين بالنفخ في قوتهم والمبالغة في الاعراب عن الخوف والقلق من ردة فعلهم، وهي تدرك جيداً أن هذا هو المطلوب في طهران!الأرجح، برأيي، أن كل هذه الاتصالات والحوارات التي جرت وراء الكواليس وأمامها بين إيران وقادة ومسؤولين دول إقليمية وغربية عديدة بشأن الحد من التصعيد، قد وفرت للنظام الإيراني ما يحفظ به ماء الوجه للتراجع تدريجياً عن التهديد بالانتقام وغير ذلك، وتتجه مباشرة إلى الحديث عن ربط هذا الانتقام بنتائج المحادثات الخاصة بوقف إطلاق النار في قطاع غزة.
انتقلت إيران إذاً من الفصل بين موقفها بشأن الرد على اغتيال المرتزق هنية وبين الوضع في القطاع الفلسطيني، إلى الربط المباشر بين الملفين، ووجدت ضالتها في ذلك التوجه الذي تريد من خلاله تحقيق أهداف استراتيجية عديدة أبرزها ايجاد المبرر والغطاء للتراجع ـ كعادتها ـ عن تهديداتها الجوفاء ضد دولة إسرائيل، وذلك من خلال الادعاء بأنها آثرت مصلحة الفلسطينيين وحقن دمائهم، والهدف الثاني والأخطر هو محاولة إكمال اختطاف القضية الفلسطينية وتوظيفها لمصلحتها، إدراكاً منها بقرب انتهاء دور حركة حماس الإرهابية على الأقل عسكرياً.
إيران تدرك تماماً أن نهاية حماس عسكرياً تعني نهاية دور إيران في الحديث عن الملف الفلسطيني، وبالتالي هي تحاول بكل الطرق الابقاء على هذا الدور من خلال لعبة المساومة السياسية، لا بهدف الحفاظ على الشعب الفلسطيني كما تزعم، ولكن بهدف الحفاظ على ما تبقى من “استثماراها” في تمويل الفصائل الفلسطينية وتسليحها، والخروج بأي مقابل باعتبارها أحد أطرف اللعبة في هذه القضية المركزية الشرق أوسطية.
يعتقد النظام الايراني أن إعلان عدم الرد على اغتيال المرتزق هنية في حال تم وقف إطلاق النار في غزة يحفظ ماء وجهه، ولكن الحقيقة الكاشفة أن إيران تحاول مجدداً السطو على القضية سياسياً واستلاب أدوار آخرين والادعاء بأن بيدها الحل والعقد في قضية لم يكن لها فيها منذ البداية سوى الدفع باتجاه العنف وسفك الدماء؛ إذ لم تستخدم إيران مرة واحدة نفوذها وقدراتها على اثارة الفوضى لمصلحة الضغط باتجاه تحقيق السلام، بل لم ترد كلمة السلام على لسان أحد قادتها ولو مرة واحدة!
آن الآوان للجميع في منطقتنا أن يستفيقوا من وهم قوة إيران، وأن يدركوا حجم التلاعب الذي يقوم به هذا النظام القبيح، فالحقيقة الوحيدة في كل ما يحدث أن مصير نظام الملالي أهم ـ كما كررنا مرارا ـ من حياة المرتزقة والارهابيين كـ “هنية ونصر الله سليماني” وغيرهم كثيرون والقائمة تطول من هذه الأدوات التي يحركها النظام ويتلاعب بها ليل نهار.
المنطق يقول أن إيران لو كانت راغبة بالفعل في وقف إطلاق النار في قطاع غزة لكان بامكانها عرض مقايضة بين وقف هجمات حلفائها مقابل تهدئة الأوضاع في القطاع، ولكنها لم تفعل طيلة نحو عشرة أشهر مضت من الحرب، والآن تأتي لتعلن أنها لن تضرب دولة إسرائيل في حال توصلت المفاوضات لتسوية، وكأن هذه المفاوضات هي الجولة الأولى، وكأنها اكتشفت فجأة أن بيدها ورقة مهمة للضغط من أجل الفلسطينيين في حين أنها كانت حتى قبل أيام تنفخ في نار الحرب وتحرض وكلائها على التصعيد على جميع المحاور!
كالعادة ستفضل إيران التضحية بلبنان وشعبه، وتحريض حزب الله على مواصلة عملية استنزاف دولة اسرائيل بعمليات محدودة لا ترقى إلى حد الاستفزاز الذي يستوجب شن حرب شاملة، وكالعادة تحاول شغل الجميع بألعابها الصبيانية من أجل شراء الوقت، وهي تدرك تماماً ما تفعله بإحكام، ولكنها لا تدرك أن الجميع بات على يقين بقوتها الورقية السخيفة والباهتة وأن الحديث عن أوهام القوة لم يعد ينطلي على أحد في منطقتنا.
أما من لا يزال ينتظر الرد الإيراني، فعليه أن يتذكر جيداً واقعة قتل الدبلوماسيين الايرانيين في مزار الشريف الأفغانية قبل 25 عاماً، حيث قتلت حركة طالبان الأفغانية 10 دبلوماسيين داخل القنصلية الايرانية في 8 أغسطس 1998، واعتقد الكثيرون وقتذاك أن إيران ستجتاح أفغانستان عسكرياً للرد على مقتل دبلوماسييها بعد أن ظلت تكرر نفس التهديدات والادعاءات، ولكن الواقع أنها لا تزال حتى اليوم تدين هذه الحادثة وتطالب الحركة الافغانية بالتحقيق فيها، بل وتعقد الصفقات مع طالبان، وهذه الواقعة الكاشفة هي نموذج يجسد نمط تفكير النظام الإيراني، والادعاء بخلاف ذلك هو اوهام لا تسكن سوى في عقل مروجيها.
نعلم جيداً أن هذه هي السياسة وأنه لا عدو دائم ولا صديق دائم، ولكنها مصالح دائمة، ولكن من المهم وقف آلة الزيف والخداع وممارسة السياسة بشكل حقيقي وفق مصالح الدول والشعوب بعيداً عن هذه الألعاب والممارسات المزدوجة.
والخلاصة في كل ذلك أن قواعد اللعبة في الشرق الأوسط كما هي لم تتغير، وأن أوهام القوة والثورة والمقاومة ضد الشيطان الأكبر التي يروج لها النظام الإيراني وغيره لا مكان لها في الواقع، وهذه حقائق يجب التعامل معها للبحث عن حلول واقعية للأزمات والصراعات في منطقتنا بدل انتظار حلول لن تأتي مهما طال الانتظار.