الـ”فومو” نوع من الشعور بأن الآخرين يستمتعون أو يجربون أشياء جديدة أكثر متعة من دوننا أو يعيشون حياة أفضل من حياتنا
عروبة الإخباري
اندبندنت عربية – نيرمين علي –
جميعنا يعرف شخصاً مهووساً بالاطلاع على مجريات الأحداث الاجتماعية من حوله ويكاد يقتله الفضول لمعرفة أي جديد يطرأ في حياة الآخرين من تغيرات ونقلات واكتشافات وللتنقيب عما يدور في الجلسات التي تجري بعيداً منه ويجلس بينما تغزوه مخاوف من نوع أن يكون الآخرون قد استمتعوا بوقتهم من دونه، وقد يتطور الأمر إلى تساؤلات عن سبب عزله عن هذا اللقاء ومشاعر حزن وذنب وشعور عميق بالعار من شيء لا وجود له أصلاً، لكن الحقيقة أن ما يعتري هذا الشخص ليس فضولاً عادياً، فنحن أمام ظاهرة تعرف باسم “الخوف من فقدان أو تفويت شيء ما”.
العلماء يقولون إن الأمر متعلق بالدرجة الأولى بقلة التقدير الذاتي، وهو ما يلقي بظلاله على الصحة الجسدية والنفسية والعاطفية. وفي حين أن التواصل مع الآخرين والارتباط بهم حاجة فطرية تدور حولها التجربة الإنسانية بأكملها، فإن تلبيتها بطرق خاطئة ستلقي بظلالها على الصحة النفسية للأفراد، لذا يعد المتخصصون الـ”فومو” (FOMO) حالاً عاطفية سلبية تنتج من عدم تلبية احتياج أساس يتعلق بالارتباط الاجتماعي.
الخوف من التفويت
بدأ “الخوف من تفويت شيء” ينتشر بسرعة خلال العقدين الماضيين حتى خصص له اسم واختصار في قاموس “أكسفورد” هو (the fear of missing out) FOMO وأصبح سائداً جداً، ويشير المصطلح إلى نوع من الشعور أو التصور بأن الآخرين يستمتعون أو يجربون أشياء جديدة أكثر متعة من دوننا أو يعيشون حياة أفضل من حياتنا، مما يؤدي بنا إلى الشعور بالخوف أو القلق من ألا نعرف أو نفتقد المعلومات أو الأحداث أو التجارب أو القرارات الحياتية التي يمكن أن تجعل حياتنا أفضل.
ويرتبط الـ”فومو” أيضاً بالخوف من الندم من احتمال تفويت فرصة للتفاعل الاجتماعي أو تجربة جديدة أو حدث لا ينسى أو استثمار مربح، ويتميز بالرغبة في البقاء على اتصال مستمر بما يفعله الآخرون.
غالباً ما تقارن هذه الظاهرة بظاهرة قديمة (قبل انتشار المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي) تسمى “مواكبة الجيران”، وهي تمثل الضغط الناتج من الاضطرار إلى التطلع والوصول أو تجاوز الوضع الاجتماعي للجار وثروته وشعبيته كمعيار للطبقة الاجتماعية، ويعد الفشل في التنافس مع الجيران إثباتاً للدونية الاجتماعية والاقتصادية أو الثقافية.
وعلى رغم أن هذا الخوف يبدو وكأنه مرتبط بالعلاقات المعروفة والقريبة، فإنه يمتد في حقيقة الأمر ليشمل العلاقات البعيدة أو حتى الذين لا نعرفهم على أرض الواقع، فقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم مساحة كبيرة لعيش هذا النوع من المخاوف واختبارها بأعلى درجاتها، فبمجرد أن يبدأ الشخص بالمتابعة اليومية لحياة ونشاطات الآخرين وصورة حياتهم، ويتحسر على ما ليس لديه منها أو يتمنى لو كان مكانهم، أو يقارن بين مستوى ما لديه والمستوى الذي يتعرض له يومياً، تبدأ رحلته مع الـ”فومو”.
تعميق الحال وانتشارها
وفي حين أن لهذا الخوف تاريخاً حافلاً في حياة البشر، وهو يصادفهم في أي زمان ومكان وظرف، فإن إتاحة الإنترنت وإدمان الـ”سوشيال ميديا” وضع الناس فوق شرك محكم يصعب الهرب من لسعات نيرانه المستعرة، فإمكانية الوصول إلى كل شيء على مدار الساعة، مع وجود حسابات متعددة على الـ”سوشيال ميديا”، أحكم قبضة هذا الخوف وعزز تأثيره السلبي بصورة لا يمكن وصفه، لذا فإن غالبية الناس مهما بلغت اختلافاتهم الثقافية والفكرية والاجتماعية والنفسية، يشعرون وكأن شيئاً ما مهماً فاتهم أو أنهم مقصرون في حق أنفسهم خلال الفترة التي يقضونها خارج هذه المنصات. ويظهر هذا الخوف بصورة أساسية عندما يصبح الشخص مهتماً بالحياة الافتراضية للآخرين أكثر بكثير من اهتمامه بتجربة الحياة الواقعية.
وكانت دراسات عدة أجريت بين عامي 2017 و2022 ربطت بين الاستخدام المتواصل لوسائل التواصل الاجتماعي وزيادة احتمال الإصابة باضطراب القلق وظهور أعراض الاكتئاب، إذ بدأ عدد أكبر من الأشخاص يختبرون هذا الشعور أثناء مشاهدة منشورات وسائل التواصل الاجتماعي والتفاعل معها، متناسين أن نموذج عمل هذه المنصات قائم على إتاحة وصنع صورة جذابة مصممة بعناية لتتسق مع نمط معين اختاره الشخص ليظهر به، أو لحظة يظهر بها لشخص في حال من المتعة يعممها الجمهور معتقداً أنها النمط العام والدائم لحياته، خالطين بين الصورة الحقيقة والصورة الافتراضية.
الأكيد أن كيفية استخدامنا منصات التواصل الاجتماعي وعدد مرات استخدامها له التأثير الأول والمباشر في مدى احتمال خوض تجربة الـ”فومو”، إضافة إلى أن الأشخاص الذين لديهم مستوى منخفض من تقدير الذات أو كانت علاقتهم بأنفسهم وأجسادهم غير مستقرة، هم أكثر عرضة للتأثر بهذا الخوف، وكذلك اضطراب القلق والاكتئاب عاملان حاسمان في تكرار التعرض لهذا الخوف واستمراره.
تأثيرها في الصحة
لهذا الخوف تأثير مباشر في الصحة الجسدية والنفسية والعاطفية، ويمكن ملاحظة وجوده من خلال مجموعة أعراض مرتبطة بالقلق حددها المتخصصون، وهي توتر المعدة والغثيان والصداع وزيادة معدل ضربات القلب ومشاعر الضيق العاطفي، كما تزداد نسبة الأفكار السلبية التي تتطفل على العقل ويشعر الشخص بنفسه مستنفد القوى في مونولوغ سلبي عن النفس، مما يزيد من صعوبة تحسين درجة الإحساس بالقيمة والاحترام الذاتي.
والحقيقة أن هذه الظاهرة ربطت أيضاً بالآثار النفسية السلبية في المزاج العام والرضا العام عن الحياة، كما ارتبطت بصورة أساسية بنقص في الحاجات النفسية، إذ تؤكد نظرية التحديد الذاتي أو نظرية تقرير المصير أن الرضا النفسي للفرد في كفاءته واستقلاليته وارتباطه يتكون من ثلاث حاجات نفسية فطرية للبشر تضمن النمو الأمثل وهي الكفاءة والشعور بالارتباط والاستقلال الذاتي، وتعد هذه الحاجات ضرورة فطرية وغريزية غير متعلمة مزروعة في البشر على اختلاف الزمن والجنس والثقافة.
تحديد القيم الشخصية
ينصح المتخصصون بادئ ذي بدء بإجراء تقييم قائم على أهمية كل هدف من أهدافنا وما الذي يساعدنا على تحقيقها، والتعرف على مشاعرنا ووضع الحدود الزمنية والمكانية وتلك المتعلقة بالعلاقات ودرجتها، والتعلم أكثر حول المشاعر أنواعها ودرجة خصوصية بعضها، وإدراك قيمنا الخاصة وتفهم أن بعضها قد يكون غير متسق مع قيم الآخرين، ووضع قائمة بالأشياء التي تجلب لنا السعادة وتجعلنا نشعر بالثقة والرضا، بصرف النظر عن اختيارات وتفضيلات الآخرين، أي معرفة ما يسعدنا حقيقة وما لديه قيمة فعلية لدينا، بدلاً من ملاحقة خيارات الآخرين ومحاولة مجاراتها.
الخطوة التالية هي إعداد قائمة بالأشياء التي لا تخدمنا، وتلك التي تشعرنا بالسوء حيال أنفسنا أو تؤذي مشاعرنا أو تجعلنا نشعر أننا لسنا جيدين بما فيه الكفاية، والتركيز الكامل على حياتنا بكل ما فيها ومحاولة التطور والتحسين انطلاقاً من ذاتنا ومعطياتنا الحالية.