على رغم كل الأوصاف البلاغية للقضية الفلسطينية من أنها «قضية العرب الأولى» والمركزية والمحورية والمصيرية وأنها أم القضايا، وسبب الثورات والانقلابات، والإنفاق العسكري الهائل، إلا أننا كعرب وخلال أكثر من 70 عاماً لم نحارب إسرائيل بشكل جاد، حروبنا معها قصيرة، ندخلها بحماسة إعلامية وخطابية أكبر من التخطيط العسكري، ومن دون إعداد طويل واستعداد للصبر والتحمل، بل إن معظمها كانت حروباً علينا وليست جهاداً منا، حتى أن حربي 48 و73 اللتين كانت المبادرة فيهما للعرب، جاءتا قصيرتين متخبطتين بأهداف سياسية محدودة أكثر من أن تكون حروب تحرير حاسمة.
لكي تتضح الصورة لنقارن حرب البوسنة (92 – 95) مع الحروب العربية – الإسرائيلية كلها، البوسنيون دخلوا حربهم بعزيمة «حرب استقلال» كاملة، إما أن ينتصروا تماماً أو يهزموا تماماً، وضعوا كل جهدهم وتضحياتهم، ورجالهم ونسائهم رهناً لتلك الحرب، لم ينظروا في مسألة توازن القوى، ولم يهتموا بكل الظروف الدولية والإقليمية المضادة لهم، ذاقوا الأمرّين، الخذلان، التآمر، واستفادوا من كل المتاح، قليله وكثيره، تعاملوا مع كل من هو مستعد أن يساعدهم بغض النظر عن دوافعه، وصدقه وكذبه، اجتمع حولهم فرقاء قلّما يجتمعون، السعوديون، الأتراك، الإيرانيون، حتى الماليزيون البعيدون في أقصى الأرض كان لهم دور، المهم عندهم هو النصر، لو أظهروا تضعضعاً، أو غلبوا «حكمة» من قال لهم اقبلوا بالقليل الذي يأتيكم من عدوكم الصربي، ثم تفاوضوا معه لكانوا اليوم أقلية مستضعفة تتفاوض مع كيان صربي عنصري كاره لهم.
هذه سنة الله مع أي شعب يريد «كل الحرية» الجزائر، فيتنام، أرلندا، أوروبا تحت النازية، للحرية ثمن وأكلاف أولها الدم والموت، ليست هذه خطابة وحماسة وإنما تحليل سياسي تاريخي متكرر.
الفلسطيني وحده الذي لم يقاتل حرباً طويلة من أجل الحرية منذ ثورته التاريخية عام 1936 التي كادت أن تكون حاسمة وحتى حرب غزة الجارية الآن، لأنه ترك قضيته للعرب، وللعرب حساباتهم وحكامهم الذين لديهم مصالحهم وأولياتهم، فكانوا عندما يخسرون حرباً ضد إسرائيل، يتركون فلسطين وأهلها لمصيرهم، ويعودون لأوطانهم يرممونها، ويحمون ما يتبقى منها ليحكموها، ويرسلون للفلسطينيين الوعود والخطابات وقصائد الشعر، المهم أن يبقى الحزب، ويبقى الزعيم ويبقى ما تبقّى من الوطن ليحكمه.
حرب رمضان 1435 نوع مختلف من الحروب، حرب فلسطينية خالصة، من بدايتها إلى نهايتها، التي لم نرها حتى الآن، ابتعد عنها العرب تماماً، بل معظمهم أنكرها وضاق بها وتذمّر ممن قادها، ولكن الفلسطيني فرض قراره على الجميع، هكذا بدا خالد مشعل وإسماعيل هنية قائدا «حماس» وهما يتقدان فخراً وحماسة، يتحدثان بثقة، يضعان شروطاً وواقعاً جديداً على الجميع، أعادا الحياة للقضية الفلسطينية، كل ما في هذه الحرب جديد، السلاح الذي دخل غزة، كيف دخل؟ على رغم الحصار، آلاف الصواريخ دخلت بلداً صغيراً محاصراً براً وبحراً وجواً، هذه الحقيقة وحدها معجزة، اعتقد البعض أن الأنفاق لتمرير الرز والسكر والمازوت وبضعة رشاشات ومتفجرات، فغلقت ودمرت وأغرقت بالماء، ولكن مرّت عبرها أطنان من المتفجرات، ومئات من الصواريخ، تهريب صواريخ «غراد» التي يزيد طول الواحد منها على 7 أمتار معجزة، كيف مرّت؟ وهل مرّت عبر الأنفاق أم من البحر؟ مئات منها في حوزة «حماس» فكيف وصلتها؟ لا يمكن أن يصدق أحد أنها استفادت من سنة حكم الرئيس المصري المعزول محمد مرسي وحكم الإخوان فغضت مصر الطرف عن كل هذه الصواريخ، فالجميع يعلم أن مرسي لم يكن مطلق اليد عسكرياً ولا استخباراتياً، لا بد أن إسرائيل واستخباراتها مشغولة بحل هذا اللغز للحيلولة دون استمراره، ولكن إذا استطاعت «حماس» وهي محاصرة أن تهرّب كل هذه الأسلحة، وهو ما عجز الرئيس الراحل عرفات أن يفعله وحوسب عليه حساباً عسيراً لمجرد أنه حاول، وهو يترأس منظمة واسعة الصلات الدولية والإمكانات، فهي قادرة على أن تكرر ذلك.
الأداء القتالي المميز لرجالها، شبكة الأنفاق الهائلة التي تمتد أميالاً تحت غزة، ومنها إلى إسرائيل ومصر، التي استخدموها ببراعة فأثخنوا العدو بإصابات غير مسبوقة، وسيستخدمونها مرة أخرى وأخرى كلما اجتاح العدو حياً لهم، يكشف أن الحركة لم تضع وقتها وهي تحكم غزة، الإسرائيليون يعترفون بهذا الأداء وهم قلقون من ذلك، وسيكون أكبر رادع لإسرائيل من اجتياح القطاع واحتلاله، بل ربما تريد «حماس» ذلك كي تدخل في حرب تحرير طويلة الأمد ضد الإسرائيليين، حرب لا بد وأن يمتد أوارها إلى الضفة التي تغلي هي الأخرى، وقد تقلب كل ما استقرّ هناك بعد أوسلو.
الوحدة الوطنية التي تجلّى فيها أهل غزة، واستعدادهم للتضحية، وأنهم مستعدون للموت ولا العودة لحياة ذليلة تحت حصار لا إنساني، إنجاز آخر للفلسطيني العنيد المقاتل، فلم يبقَ للإسرائيلي غير أن يدمّر غزة عن بكرة أبيها، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يقضي على مليوني فلسطيني.
الجديد الآخر والمهم هو أن الفلسطيني بات هو من يفرض شروط وقف إطلاق النار، على غير ما جرى في كل الحروب العربية، لا يوجد ما يخسره، لا يقلقه تهديد إسرائيل بقصف القاهرة أو عمان أو دمشق، أو احتلالها، كان ذلك يوماً نقطة ضعف الجيوش العربية عندما هزمت، مع الفلسطيني المقاتل العنيد فقدت إسرائيل هذه الميزة الحدية، فهو تحت الاحتلال ابتداء، سواء أكان في رام الله أم في غزة، والإسرائيلي يصول ويجول في الضفة متى ما أراد، الاحتلال المباشر ليس في مصلحة الإسرائيلي، والفلسطيني المقاتل يعلم ذلك ويستخدمه لصالحه وهذه حقيقة جديدة.
الجديد الأهم، أن الفلسطيني مستعدّ لقتال طويل… طويل، وهذا تحوّل استراتيجي، إن حافظ على هذه العقيدة القتالية الصلبة، سيغير كل قواعد «الصراع العربي – الإسرائيلي»، وسيكون مفاوضاً أقوى، وسيحصل على احترام العالم الذي تاريخياً يحترم القوي ويزدري الضعيف.
لو انهار زعيم البوسنة الراحل علي عزت بيغوفيتش باكراً، بعدما أثخن بالجراح، ورأى شعبه يقتل في مجازر بالآلاف تحت نظر العالم، بل حتى تحت الحماية الأوروبية الرسمية، لما تحرك الرئيس الأميركي بيل كلينتون في آب (أغسطس) 95 ضد رغبة أوروبا، وقاد الناتو لقصف الصرب وحملهم قسراً إلى طاولة التفاوض وقبلوا باستقلال البوسنة والهرسك.
لن يقصف أحد إسرائيل، ولكن إن صمد الفلسطيني هذه المرة، ستكون مفاوضات السلام التي فشلت قبل أشهر قليلة على رغم اهتمام وتفاؤل وزير الخارجية الأميركية جون كيري أكثر جدية، وستشمل أسباب حرب غزة الحقيقية وهي الاحتلال والحصار، ليس في غزة وحدها بل والضفة أيضاً، حينها يجب أن يلحق العرب بركب الفلسطيني المقاتل العنيد مؤيدين ومؤازرين، وينسوا كل ما قالوه وفعلوه وما لم يفعلوه في زمن التردي العربي الكبير.
* كاتب وإعلامي سعودي