استلزم الوصول إلى مشروع اتفاق لإيقاف الحرب العدوانية على قطاع غزة، أسبوعاً كاملاً من الدماء والموت والدمار، لتبدأ بعد ذلك معركة قد تكون أشد ضراوة، وأطول مدى وأكثر تعقيداً، لبلوغ الهدف الأول لكل نهاية جولة قتال، ألا وهو إسكات مصادر النيران في لحظة متفق عليها بين طرفين أصابهما الإعياء، للدخول من ثم إلى دائرة التفاوض والمساومات؛ إما لإنجاز تسوية سياسية، وإما لأخذ استراحة محارب، كما هي الحال مع قطاع غزة على وجه الاستثناء.
نحن الآن في خضم معركة قاسية لتحقيق تهدئة أخرى، هي أقرب ما تكون إلى فاصل بين حربين، تأتي الثانية منهما في العادة أشد هولاً من الأولى، وفق ما يدل عليه سجل الاعتداءات الإسرائيلية المتعاقبة على القطاع المحاصر بهذه الدرجة أو تلك، منذ العام 1948؛ الأمر الذي يدعو إلى حبس الأنفاس، وكبح بعض الكلام احتراماً لحرمة الدم، لاسيما ونحن نتابع بقلق، ونخشى بحق، المجازفة بخسارة المكاسب الاستراتيجية والمزايا النسبية المتحققة في الميدان، لصالح مكاسب تكتيكية، وصراع أجندات محاور إقليمية، تتمركز الآن في قلب هذا السجال، وتتنافس على أبوّة من له شرف التوسط في وقف النار.
فمنذ أن أعلنت مصر، بعد عزوف قصير، عن مشروع مبادرة لوقف العدوان الآثم على غزة، تحولت بوصلة الحرب (الكلامية هذه المرة) من الاتجاه الطبيعي لها وهو إسرائيل، إلى الاتجاه الخاطئ، وهو نظام عبدالفتاح السيسي أساساً، والسلطة الفلسطينية بالمعية، في موقف يصعب فهمه وتقبله، من دون استذكار مدى شدة الكراهية التي تلبست سائر فروع حركة الإخوان المسلمين، بما في ذلك فرع غزة، تجاه من قوض حكم الجماعة الأم، وأغلق الأنفاق الحدودية، وأوقع “حماس” في حصار مضاعف، أملى عليها التنازل عن الحكومة على مضض، مع البقاء في الحكم بقوة الأمر الواقع.
والحق أنه يوجد هناك ما يبرر الغضب والتحفظ إزاء هذه المبادرة، التي جاءت شروطها أدنى من مستوى الصمود البطولي والأداء الحربي المميز للمقاومة في هذه الجولة. إلا أن الحملة السياسية والإعلامية المنظمة ضد أصحاب المبادرة، بدت وكأنها معركة أخرى موازية للحرب الجارية بالحديد والنار، تستهدف تجاوز مصر وتهميش دورها الإقليمي، وتفشيله سلفاً، من دون الالتفات بعناية إلى منطق دكتاتورية الجغرافيا.
من المحظور في زمن الحروب فتح الدفاتر القديمة، وتسديد الحسابات الفرعية المؤجلة، ومساءلة النوايا المبيتة. غير أنه عندما ينتصب الدم الفلسطيني في غزة كمعيار لإجراء المقاربات والمحاكمات، يصعب على المرء تقبل بذل التضحيات خارج سياقاتها الصحيحة، ودفعها بسخاء خارج إطار المصالح الوطنية التي لا تعرف المجاملات. فقد كانت لحظة وقف إطلاق النار في ختام أسبوع مجيد من البطولات النادرة، لحظة مواتية، محمولة على أكتاف سابقة تاريخية غير مسبوقة في مجرى هذا الصراع المديد، يُخشى أن تفلت من بين الأيدي، وقد تنقلب إلى عكسها، إذا ما طالت الحرب أكثر.
إزاء ذلك، فإن من المرجح أن تكون معركة وقف إطلاق النار، المليئة بالكمائن والألغام الغاطسة، معركة لا طائل من ورائها، تجر عداوات إضافية وتفتح أبواباً جديدة، أحسب أن المتصدين للذئاب الإسرائيلية الجريحة هم في غنى عنها، لاسيما أن تلك الذئاب عثرت في رفض مشروع التهدئة على ضالتها المنشودة؛ لشن حرب أشد وحشية مما سبق، ضد مقاومة محاصرة لا سند لها في واقع الأمر، ومحو كل ما تحقق في الأسبوع الأول من مكاسب حربية؛ رمزية وأخلاقية، كان ينبغي الحفاظ عليها وتوظيفها ببراعة على مائدة المفاوضات اللاحقة.
ختاماً، ستظل مصر هي قدر غزة، أياً كانت هوية قادتها. وستبقى حقائق التاريخ والجغرافيا، في الماضي والمضارع والمستقبل، أشد ثباتاً من كل المتغيرات، تسمو فوق كل الأهواء والعنعنات، وتعلو قيمة على كل الحسابات الضيقة والأجندات الإقليمية المتغيرة. أكثر من ذلك، فليس في السياسة موضع للحب والكراهية، وليس في العلاقات الدولية صداقة دائماً، وإنما مصالح متغيرة. فما قيمة أن تربح “حماس” العالم كله وتخسر مصر، وهي رئة الغزيين الوحيدة، وخشبة خلاصهم من وهدة أزمة متدحرجة، وبحر معضلة استراتيجية عميقة؟
عيسى الشعيبي/كمائن معركة وقف إطلاق النار
25
المقالة السابقة