منذ نشوب الأزمة السورية لم تتقدم منظمة الأمم المتحدة خطوة إلى الأمام نحو مصلحة الشعب السوري وتجنيبه الويلات والمآسي، وبدل أن تكون الحل الكامل للأزمة وليس جزءًا منه، حرصت على أن تكون كل المشكلة في الأزمة، مُعمِّقةً بذلك المآسي والآلام التي يكابدها الشعب السوري، ولولا استخدام كل من روسيا والصين حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن لكانت سوريا أثرًا بعد عين قبل عامين ونيف، ولأبيد الشعب السوري عن بكرة أبيه.
ومثلما خرجت المنظمة الدولية من البوابة الكبرى للمؤامرات القذرة في مجلس أمنها ضد العراق يوم أن ألقى كولن باول وزير الخارجية الأميركي في الولاية الأولى لجورج بوش “الصغير” كذبة التحريض والفبركة الأولى أمام المجتمعين والعالم، ها هي منظمة الأمم المتحدة تعاود الدخول من البوابة ذاتها في استعادة سريعة لما سبق أن مارسته ضد العراق من خلال هيئة المفتشين الدوليين “الأنموفيك”، بإعلانها شديد الإدهاش والمثير للريبة عن فقدانها الأدلة التي كانت بحوزتها عن استخدام العصابات المسلحة سلاحًا كيميائيًّا ضد المدنيين وعناصر الجيش العربي السوري في مدينة حلب، مُتَّجِهةً نحو تعقيد ملف الأزمة، ومُمَيِّعةً للمطلب السوري الرسمي بإرسال فريق تفتيش محايد للتحقيق في حادثة خان العسل بريف حلب، وذلك تمهيدًا منها وعبر أمينها العام بان كي مون باتجاه تسييس موقفها من دعوة دمشق الذي يفترض به الحيادية.
ويتوازى إعلان المنظمة الدولية فقدانها الأدلة الملموسة لاستخدام العصابات المسلحة للسلاح الكيميائي، مع عودة الاستخبارات الأميركية إلى واجهة الأحداث بفبركة كذبة جديدة ضد سوريا واتهام الجيش العربي السوري باستخدام السلاح الكيميائي على نطاق “محدود”، لتعيد عجلة التاريخ إلى بدايات عام 2003م وما قبله، حين زعمت أن العراق يمتلك مخزونًا من أسلحة الدمار الشامل، ومثلما كان البريطاني تيسًا مستعارًا لتحليل الكذبة الأميركية، يقدم البريطاني نفسه مجددًا ليكون تيسًا مستعارًا لتحليل الكذبة الأميركية الثانية ضد دمشق، فهل سوريا في مواجهة جورج تينيت وكولن باول وتوني بلير جدد؟ وهل هي على أعتاب سيناريو عراقي مكرر؟
المثير للسخرية أن هذه الحبكة الأميركية ـ البريطانية الجديدة نسجت خيوطها الواهنة ـ كما قيل ـ من عينات جمعتها العصابات المسلحة المستخدمة للسلاح الكيميائي في خان العسل، وأن هذه “العينات” هي التي ستغير قواعد لعبة الرئيس الأميركي باراك أوباما.
هناك أمران رئيسيان يقودان التدخل الصهيو ـ أميركي وما يدور في فلكه من عملاء وأتباع في الشأن الداخلي السوري، وقد ظهرت ملامحهما في بدايات الأزمة وهما، الأول: الجيش العربي السوري ومحاولات تشويهه بإلصاق تهم المجازر التي ترتكبها العصابات المسلحة بالجيش، والحط من معنوياته، والسعي نحو تفتيت بنيته وتغيير عقيدته القتالية الموجهة نحو الاحتلال الصهيوني، وقد تفاوتت هذه المحاولات بين تشجيع الانشقاقات والاستنزاف عبر المال العربي. الثاني: ما بحوزة سوريا من أسلحة متطورة تضمن لها هيبتها وتوازن الرعب ولو نسبيًّا مع كيان الاحتلال الصهيوني. ومن المؤكد أن التقدم الكبير الذي يحرزه الجيش العربي السوري على الميدان، ونجاحاته اللافتة للنظر في مواجهة ما يزيد على نصف دول العالم المتكفلة بتمويل العصابات المسلحة وتجنيد المرتزقة وأصحاب السوابق من الجرائم وتدريبهم وتسليحهم، من المؤكد أن كل ذلك يرفع منسوب مشاعر القلق والحقد والكراهية لدى معسكر الحرب والتدمير.
وفي تقديري أن التدخل الصهيو ـ أميركي لن يتوقف حتى يصل إلى نتيجة ما حول ذينك الأمرين، حيث على الأرض تسير محاولات التمهيد لذلك يمكن استنتاجها من خلال: أولًا: التدخل الأميركي لإعادة المياه ـ المقطوعة ظاهريًّا ـ بين كيان الاحتلال الصهيوني وتركيا العثمانيين الجدد، ودفع الأخيرين إلى تسوية مع حزب العمال الكردستاني، بالتزامن مع نشر بطاريات صواريخ باتريوت على الحدود مع سوريا، حيث التعويل على دور تركي كبير في عزل إيران والتصدي لأي هجمات صاروخية محتملة إيرانية ـ سورية ضد الاحتلال الصهيوني. ثانيًا: تسخين الجبهة العراقية في كل من الأنبار وكردستان، لخلق منطقة عازلة لا تسمح لأي مصدر دعم أو تدخل قد تقوم به طهران أو بغداد في حال أي تدخل أجنبي ضد سوريا أو المقاومة اللبنانية، وفي الوقت ذاته لأجل تهريب السلاح والمسلحين إلى داخل سوريا. ثالثًا: إقامة حزام من العصابات المسلحة المتحالفة مع كيان الاحتلال الصهيوني وعملائه، بدءًا من لبنان شمالًا وحتى الجولان، مرورًا بالحدود مع الأردن فالعراق ثم تركيا، يتوازى معه حزام آخر تقوم به حشود لقوات الاحتلال الصهيوني على حدود لبنان الجنوبية. وما يلاحظ هنا أن إيران أصبحت مشتتة بين ما يجري في سوريا والعراق، والتلويح بالعمل العسكري ضدها، وكذلك ضد المقاومة اللبنانية.
طبعًا كل ذلك يبقى لا قيمة له، ويبقى مرهونًا بمدى صلابة الموقفين الروسي والصيني وبقية دول البريكس، وصلابة الجيش العربي السوري وإنجاز مهمته على الأرض والتفرغ لبقية فصول المؤامرة الخارجية.
خميس بن حبيب التوبي
khamisaltobi@yahoo.com