أخذ منحى القلق الشعبي اتجاها تصاعديا منذ سطع نجم ما يسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) بشكل مبالغ فيه، وانقسام الناس بين مؤيد لأفكار هذه “الدولة”، ومعارض لها.
صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تعج بالمواقف المتباينة، وتعكس اتساع الخلاف الذي اتضحت معالمه أكثر بمجرد إعلان “دولة الخلافة” وتنصيب “خليفة” جديد للمسلمين.
الإعلان عن دولة الخلافة الإسلامية فكرة مغرية لمجتمع متدين، ما يزال يجهل حقيقة هذه “الدولة” والقائمين عليها، بحيث تجد المؤيد لها منافحا عن التسمية وليس المضمون السيئ الداعي إلى القتل وسفك الدماء.
مع التطورات المتسارعة والمتسرعة، يتشكل واقع مختلف، يلزم التعامل معه بعقلية مختلفة من قبل الجميع. فالتعامل مع التحدي الجديد يتطلب وضوحا بمواقف صريحة من دون مواربة من اللاعبين كافة؛ لاسيما أن تنصيب “خليفة” وحكم الناس باسم الله، مدانان ومنتقدان حتى من قبل الجماعات القريبة من “داعش”.
إذ تعرضت الفكرة، أول من أمس، لنقد شديد من قبل منظر التيار السلفي الجهادي أبو محمد المقدسي، الذي أخضع الخطوة لتشريح دقيق، يسلط الضوء على كل سلبياتها وضمن ذلك التهديد بسفك دماء كل من يخالفها.
المواقف الناصعة اليوم مطلب/ فرصة من مختلف القوى السياسية، وتحديدا الإخوان المسلمين، لتوعية المجتمع بخطورة انتشار هذا الفكر المدمّر، وتسويق نقيضه من الأفكار “المعتدلة”.
وبعد إعلان المواقف من هذه الفكرة تحديداً، يبدو ضروريا إجراء مراجعة للمواقف فيما يتعلق بكل قضايا الشأن الداخلي، والتخلي عن المواقف المتزمتة والمتصلبة؛ بغية توحيد الأطراف حول غاية أهم، تتمثل في ترتيب البيت الداخلي، ومحاصرة الفكر المتطرف ووضعه في حجمه الحقيقي من دون مبالغة في التخوف منه.
بما سبق، يمكن إشراع الباب الثاني للرد على فكرة “الخلافة”؛ بتقوية الجبهة الداخلية وتحصينها في وجه هذا التيار الذي يُخشى من امتداده وانتشاره في مجتمع هش سياسيا، يفتقر إلى التنوع الفكري والحزبي الذي يُشبع تطلعات الناس بالمشاركة والتعبير عن الذات وتقليص مساحات التهميش والاحتقان، فلا تتوفر حاضنة لهذا التيار بين شباب يشعر بالظلم والقهر، وتقتات البطالة على حاضره وتهدد مستقبله.
تمتين الجبهة الداخلية، وهي مصطلح فضفاض، يعد الأساس وصمّام الأمان. فمواجهة التحدي الجديد تتطلب مقاربة مختلفة من جميع الأطراف. إذ ثمة تهديد جديد اليوم، على الجميع مجابهته والوقوف في وجهه، كل بحسب الدور الذي يؤديه؛ فالفراغ دائماً تملؤه العناكب، وهذه هي الحال اليوم.
المطلوب ملء الفراغ الفكري والثقافي، والالتفات إلى كل الثغرات التي تسمح للفكر المتطرف باختراق المجتمع، ومعرفة أسبابه؛ بدءا من منابر المساجد، مرورا بالمناهج، وليس انتهاء ببطء مسار الإصلاح السياسي، وصولاً إلى معالجة أصل الداء قبل أن يستفحل وتفشل بعد ذلك كل السبل لعلاجه.
بعد سنوات “الربيع العربي”، نجد الجميع فوق الشجرة؛ متمسكا بمواقف متعنتة لن تقدر على الاستجابة لطموحات المجتمع، والتخفيف من هواجسه التي تفاقمها الأوضاع السياسية الإقليمية، والظروف الاقتصادية المحلية الصعبة.
العقل والمنطق يفرضان وضع مقاربة جديدة، تشخص التحديات بدقة، وترسم سيناريوهات لمجابهتها، بما يسد كل الأبواب في وجه هذا الفكر.
تحصين المجتمع وحماية المنجزات ممكن؛ باللجوء إلى لغة العقل والفكر والمنطق. أما ترك المجتمع من دون بدائل، فلا يعني إلا أمرا واحدا، وهو أن هذا الفكر العدمي سيسود، حين يجد في بعض المكونات المجتمعية لقمة سائغة.
قوانين الإصلاح السياسي هي المفتاح، والتأخر أكثر في إقرارها يؤخر الحلول. وعلى الجميع، بما فيهم مجلس النواب، عدم الخشية من إقرارها ووضعها موضع التطبيق، فمصلحة البلد تتقدم على كل مخاوفهم وإن كانت مبررة.
فمثل هذه القوانين، ولاسيما قانون الانتخاب، ستكون قادرة على دمج الإسلام السياسي في العملية السياسية ضمن قواعد المشاركة واحترام الآخر، وبالتالي خلق معادلة تغني عن انتشار الإسلام المتطرف؛ فالديمقراطية الحقيقية هي المقتل لهذا الفكر المدمر، ولكل أشكال التطرف والإقصاء.
جمانة غنيمات/بين الديمقراطية و”الخلافة”
12
المقالة السابقة