عروبة الإخباري –
من أنا ومن أنت ومن نحن… لعلنا ذاك الأنين المغيب في جوف الحروف المخنوق من قسوة الظروف، صوتنا صهيل من شجن، طريقنا مطرز بالوجع، صرختنا سيمفونية ألم وابتسامتنا رقصة أمل ، كلما قرص خد نافذتنا الفرح خُصبت مشاتل الحنين وأزهرت في عيوننا السنين، فنشرب عطشنا ونأكل جوعنا لنعتلي صهوة التحدي، لعل في ركوبنا الصعاب ما يفصح عن عمق الرغبة الدفينة في مصاحبتنا لتك الطفلة المشاكسة فينا تلك التي لم ولن ترضخ أبدا، لعل ذلك الهدوء المرسوم على محياها ما يُنْبِئُ عن صخب الصمت الذي يسكنها، تلك المكتظة بالحروف في سردابٍ ليلهُ طويل وضوؤه شحيح لكن نهارهُ لا يكفي للسرد، فقد تنتهي الحكاية وهي لازالت لم تكتب البداية.
نعم سيدتي هي الكتابة ما يُحقق وجودنا. الكتابة أفق مفتوح على عالم رحب لا حدود له، ترتفع لقمة الجبل وتتدحرج لسفحه تُحلق في سماء الوادي وتغوص في قعره، لعلها نسمة هواء تُجدد الجسد وتُنعشه، لقد كانت الكتابة منذ القدم ولا زالت هي التحقق الفعلي للوجود الإنساني، هي صوت يمشي على أطراف أنامله محملا بفكر يواجهُ الموت ويغدر به، الكتابة تَربص مع سبق الإصرار والترصد، تقعيد للغة وإعمال للفكر، الكتابة يا سيدتي حلم ممتد من غير حدود أو حواجز؛ هي نور يشع من توالد السطور عبر كل العصور منذ اكتشاف الأبجدية وإلى الآن، هي تجربة ذاتية تتحقق بما يفيض به اليراع وما تُجيب به الروح، لعلها صخب أسئلة عالقة تشاكس الإنسان وتزج به في عالمه الذي يرغب فيه ويبتغيه، الكتابة على الدوام فسحة لمحبرة الحرف المتعب الملون بألوان الأنين، المصلوب على عمود الإقصاء، لعلها تَقَص لحقائقَ مغيبةٍ أو غائبةٍ، إنها الأنا المشاكسة الثائرة الصاخبة الرافضة لكل شبيه، هي تَهدج يكشفني ويعريني مما يسترني، إنها ركض في مرتع الصبا حيث أشاء وقت ما أشاء من دون رقيبٍ أو مقصلةِ حسيبٍ.
الكتابة استجابة لصرخة مكبوتة آن الأوان أن تتحرر من ربقة سجن الجسد، وتندفع للوجود حيث لا مكان يعلو على سلطة قلم يهدم ويبني، يرسم خط المسير من دون تضليل، هي ريشة خاصة وتشكيل خاص يوثق انفعالات تحققنا، لعلها بحة صوتية وبصمة ذاتية من دون إمكانية في التقليد أو المحاكاة، سَفر على بساط فكر يستدعي التحليق والطيران دون جواز سفر، لعلكِ وأنتِ تكتبي سيدتي تُدغدغي حلمة الحكايات وتطوفي بين دروب الأسئلة لنقش الكلمة، فالكلمة حكمة والكلمة نور تضيء السطور إذ لا سلطة على صدق الجواب ولا احتمال للصواب.
لا أعلم صراحة نبع الماء لكن ما أعرفه أنه حصل الارتواء لما ولجت عالم الكتابة، قد يكون انخراطي في الدراسات العليا قدفتح لي آفاقا للغوص في عوالمَ جديدة، عالم نثري وسردي بامتياز من خلال دراستي للكتاب المقدس الذي يحبل بعوالم سرديةٍ جديدة، وصور مجازية خلاقة جديرة بالاهتمام، فوجدتني أنساق لتلك الفضاءات الغريبة، وأغيب في غياهب الأساطير، وأسافر في رحاب التاريخ القديم عبر مختلف الحضارات العابرة لتلك الأماكن على امتداد كل الأزمان…
الكتابة عندي متداخلة غير منفصلة، مرتبطة بالحالة النفسية أو الضرورة المعرفية إذ لا يمكن الفصل بينهما. قد أجدني أتأرجح بين النصوص الإبداعية أو الأبحاث والدراسات الأكاديمية؛ الأولى سلوى للروح ألج تلك الفسحةَ كلما ناداني ذلك الصوت المخنوق. فتكون الكتابة استجابةً لنداهة داخلية ربما عاطفية أو صوفية أو تعبيراً عن رؤية شخصية؛ هي تِطواف في عالم غامض وساحر من دون تمائم أو تعاويذ، معراج في عالم علوي وبرزخ خاص فلا يمكن أن أكون إلا أنا ولا أحدٌ سواي لغتي صورتي ومُحياي إذ لا أحسن ارتداء الأقنعة ، لذا يبقى الشعر والقصة هما الأقرب في التجوال. لكنها فُسح تخبو وتتأجج وتصبح أكثر نصاعةً في الأبحاث والدراسات الأكاديمية التي تستحوذ على جل وقتي وتركيزي واهتمامي. لعل السبب في ذلك يعود للإكراهات التي تعرقل المسير، فندرة المصادر والمراجع وقلة المتخصصين في مجال الأديان تضع على عاتق المشتغلينَ بهذا التخصص مسؤولية كبيرة. قد تتساءلين سيدتي هل يمكننا أن نستغني عن الكتابة؟
كما لو أنك تسألين هل يمكن يوما أن نستغني عن الحياة والوجود؟ الكتابة هي السبيل الوحيد لتحققنا وبدونها لا دليل على مرورنا، لقد أدرك الإنسان منذ القدم أهمية الكتابة ففكر في سُبل تخليد وجوده وحفظ ذاكرته وقهر سطوة الزمن وامتداده، لذلك ابتكر الكتابة لأنه أدرك أنها سلطةٌ وليس ترفا فكريا.
لم تكن بداية رحلتي مع الكتابة رحلةً عادية بل كان فيها شيء من السحر ومن الجاذبية فأنا لم أخطط للوجهة ولم أحدد التاريخ… سافرت في رحاب الحروف وسَبحت في رحاب المعنى …على امتداد رحلتي القصيرة كنت أحاول لَفَّ هذه الحروف بالورد، وسقيها بعبق الياسمين لعلها تستطيع يوما ما، تطييب جروح هذه الذاكرة النازفة، قد تكون الكتابةُ وسيلةً للنسيان أو الشفاء بالرغم من أننا لن نشفى نهائيا، الكتابة هروب مؤقت أو مسكن لألم ممتد … هي وجود خارج الذاكرةِ المنكوبةِ وخارج الزمن.
قد تكون هُنيهتي هذه نواة لأوجاعٍ مشتعلةٍ لا تخبو إلا بعد طي سنواتٍ فوضويةٍ، لكنني أحاول دائما تلوينها بشهقات فرح هاربةٍ لخلق توازنٍ داخلي كاد أن يُسقط إحدى كفتي ميزانِ الروح. لم يعد أمامي سوى نسج جسر من الحروف أعبر من خلاله إلى الضفة الأخرى، فقد صُمت منذ زمن ليس بالقريب عن اجترار ما هضمته الأيام الخوالي من وجع مرير.
الكتابة الإبداعية هي تلك الفسحة التي أحياها وحدي لإخراج الصوت المخنوق في داخلي، وتحرير الروح من سلطة القيود التي تُطبق عليها، إذ أنه من السهل انعتاق الجسد من مختلف أنواع الأغلال لكن من الصعب تحرير العقول والأفكار وإطلاقها في سماء الحرية.
الشعر والقصة بالنسبة لي هما الكوة الوحيدة التي أُطل منها وأنا مرتاحة البال، هو العالم الفسيح الذي أرفل في جنباته، وأتسربل بين حدائقه، وأحلق في سمائه الرحبة، هو المشي على أطراف الأصابع وبأقدام حافية في الحديقة الخلفية…هو مشي لا يتقنه إلا من تربى على التحليق فوق قطن السماء حيثُ الضوءُ المنبعثُ من الصفاء والنقاء.
الكتابة الإبداعية هي ملجئي الوحيد الذي أَلوذُ إليه لأحتميَ من السيوف المهندة التي تحصد كل مورق يانع لا يَروق للبعض لاعتبارات إيديولوجية أو سياسية أو اجتماعية أو تابوهات مُغلقةٍ لم نتجرأ على طرق بابها، أو ربما طرقها البعض فزُج بهم في جحيم اللعنات، واحترقت القصيدة في طقس احتفالي مهيب.
لقد كانت النصوص القصصية دائما فسحةً لمحبرة الحرف المتعب الملون بألوان الأنين، المصلوبِ على عمود الإقصاء، هي رحلة في الدقائق الهاربة من الذاكرة المتعبةِ … أو هي هروب من الصور المتناثرة أمام ركح الحياة… هي الرغبة في تمزيق صفحة الماضي، والارتماء في حضن المستقبل المبهم، إنها الغوص في هذيان الحروف….
قصيدتي غضة وطرية عمرها عمر طفل داخلي بدأ يشاكسني بشقاوته منذ سنوات. لكن أعتقد هي قديمة قدم قدومي لهذا العالم، هذه الذاكرة تتمنع علي، تخونني كثيرا وتهرب مني عندما أرغب في مداعبتها، ودغدغتها لأنتزع منها اعترافا متى بدأت علاقتي بالقصيدة…؟ ربما الشعر كان يكتبني دون علمي ودون حروف مشتهاة… فهو لم يترك لي المجال لأكتشفه بل هو كشفني للعيان دون إذن مني، بسطني في صورة دون إطار وعلقني في الهواء.
أكتبي سيدتي فما الكتابة إلا تاريخ يحقق تواجدك وحضور يكشف شخصك وممارسة لحق من حقوقك الذي يظهر موقفك.
*د.كريمة نور عيساوي/ أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات
كلية أصول الدين
جامعة عبد المالك السعدي، تطوان