عروبة الإخباري – حنان جميل حنّا
منذ أيّامٍ سرقَني خيالي من واقعي، وسرحتُ لبعض الوقت بتأمّلاتٍ.
في الحقيقة لم يسرقني التأمّل منذ الدّقائق الأولى، بل لربّما بعد مرور الدّقائق الثّلاثين،
كنتُ في عيادة دكتور، أنتظرُ دوري في صالة الانتظار.
دقائق الانتظار الأولى تُبيح السّكينة والهدوء، بعدها يتسلّل إحساس اليأس، ثم القنوط، أقلق قليلاً، فأعود وأهدِّئ حالي
وأقول: يا نفسي (عِدّي) للعشرة، (عِدّي) للعشرين، و للمائة… و… و…
التّكنولوجيا الحديثة تعجُّ في المكان وتسيطرُ على العقول والقلوب، نادراً ما ترى أحدهم بدون رفيق الجيب واليد (التّلفون الخلويّ)
وبالرّغم من ذلك، فلا تزال الكتب والرّوايات التّاريخيّة تجول تحت إبط الكهول وفي أيديهم وهم ينتظرون دورهم،
يقلّبون الصّفحات الصّفراء القديمة، ويقرأون الكلمات بعيونهم الصّغيرة الضّعيفة من خلف نظّارات طبّيّة سميكة البرواز، تذكّرك بالزّمن الجميل الذي مضى واندثر.
بضعُ دقائق أخرى، أثارَ اهتمامي دخول سيدة -أظنّها في العقد السّابع من العمر- للعيادة، وهي تحمل حقيبة يدٍ كبيرة الحجم، فلمّا جلستْ تنتظرُ دورها، فتحت الحقيبة ببطءٍ وتأنٍّ، وأخرجت نسيجاً صوفياً جميل الألوان، وبدأت تُكمل ما بدأت مسبقاً بغزله، وهي تبتسم للجميع، وتبرر ما تفعله بأنها ستنتظر هنا لبعض الوقت، فإذا بالجميع يهزّ رأسه بالإيجاب والموافقة، ثمّ الابتسام.
في الانتظار، الأفكار المبهجة والمفرحة لا تستمرّ بمخيّلتك، بل تهجرك سريعاً،
الأفكار المعتمة هي ستكون رفيقة خفيفة الظلّ، وترفرف كفراشات الحقل هنا وهناك،
استدركتُ نفسي و بدأتُ أملأ عيوني فيما حولي من أجواق المرضى هنا وهناك،
كأنّ الكلام يسكن قلوبهم، كما كان يسكن قلبي، أمّا الصّوت فكان يقطن داخل شفاهنا.
أفكارُنا وحدها تعمل، كمكَنةٍ تتحرّك بزيتٍ ثقيلٍ مكرّرٍ مئات المرّات.
أفكارٌ قلقةٌ، تشعر كأنّها محمولةٌ على رأسك،
وفكرنا يعمل كطائرٍ باسطٍ جناحيه فوق رؤوسنا، يودع لكلّ واحدٍ منّا نصيباً، وحِملاً ثقيلاً بعض الشّيء، ليسرق من خزائن ما تبقّى من ذاكرته، ليخزّن فيها مرّةً أخرى، وليختبرها لاحقاً.
أحسستُ كأنّ في أحضان قلوبهم جميعاً-كما في قلبي- تقطن قشعريرة خوفٍ،
ساكنةٌ وعاريةٌ، شفّافةٌ تكاد تنفجر من تلقاء نفسها، وكأنها منبسطةٌ كانبساط جناحيه طائر الفكر.
سرحتُ بخيالي أكثر، فتراءى لي هذا الطّائر وهو يقف بالقرب مني، ثمّ يدنو أقرب، وإذا به يقف فوق كتفي، ويبدأ يحدّثني قائلاً: هاتي حديثاً عن نفسكِ يا سيّدتي…
قلتُ: تركتُ بلدي قسراً…
وتركتُ بلداً آخر جبراً…
هجرتُ الرّفاق والصّحبة الحقيقيين بغصّةٍ كبيرةٍ…
ضاعت سنوات العمر في حسرةٍ، ولوعةٍ…
وعلى الهمّ أنفق شرخ الشباب، واليوم كما ترى أمامك إخفاقٌ صِحّيٌّ تلو الآخر.
قال: الحياة تستمرّ، صارعي الإخفاقات.
أمورٌ كثيرةٌ جعلتني أفكر جدّيّاً بمعنى جدوى صراع الحياة.
أغمضتُ عينيَّ لدقائق، فخيّل لي أنّني أرى خطوط الأفق البعيدة مخفيّة بسحب ضبابٍ كثيفةٍ، فجأةً قفز في بالي بطل رواية (عمّال البحر، لفيكتور هيجو) وهو يصارع البحر وحدَه دون رفيق، كان يحدّث نفسه من شدّة اليأس، وهيجان أمواج البحر وهي تكاد تبتلعه لينقذ مركبه من التّحطّم بين صخور الشّاطئ،
البحر كالحياة أحياناً، مقفلٌ هادئٌ، سرّيٌّ جدّاً، لا يذيع…
يزأر أحياناً، ويلين أحياناً أخرى، ولكنّه مع شخصيّة فيكتور هيجو كان يحاول أن يفتكَ به كما يفتك الحيوان المفترس بفريسته، كان وحدَه دون رفيقٍ،
حبّذا لو كان معه، ما كان ليُحدّث نفسه.
– حنان حنّا
– حنان حنّا
أحدهم نادى اسمي ..
أخيراً .. حان دوري!