عروبة الإخباري –
المصادر التاريخية تكشف صعوبة كتابة تاريخ حِرَفِيّ اسمه “النفار”، همّشه المؤرخون في اختياراتهم. و”النفار” تختلف أسماؤه، غير أن صفته واحدة، فهو الشخص الذي بقي متشبثاً بحرفة في خبر كان، ومهنة صارت جزءاً من الماضي، وتعيش أيامها الأخيرة، بعدما داستها عجلات التطور، وانتهى عمرها الافتراضي.
وتعتبر مهنة “النفار” في المغرب جزءاً من التراث الشعبي القديم المرتبط بشهر رمضان. وكغيرها من المدن العتيقة بالمغرب، تحتفظ مدينة آسفي بعادات وتقاليد خاصة بكل مناسبة، قد تلتقي وتختلف مع عادات وتقاليد المدن الأخرى. ومن مظاهر الإرث الرمضاني التقليدي بآسفي شخصية “النفار”، أو ما يُعرف باسم “المسحراتي” عند أغلب الدول العربية. والمشهور عن “النفار” هو ذلك الرجل الذي يسير في عتمة الليل فجراً في الشوارع والحارات بهدف إيقاظ الناس قبل صلاة الفجر، حيث تسمع المزمار أو ضربات الطبل بتناغم جميل، وهي تتراقص على إيقاع رمضاني مفعم بالحنين، تعبّر عن فحوى عمل الرجل الذي ينطلق في الطرقات بخطى وئيدة تنسجم مع الإيقاع.
وتعد مهنة “النفار” المهنة الوحيدة في المغرب التي يعمل صاحبها شهراً واحداً في السنة، ثم يتوارى عن الأنظار بمجرد الإعلان عن يوم عيد الفطر. وقد ارتبطت هذه الحرفة لعقود بقدوم ليالي رمضان، وظلت ممارستها ملتصقة بالتطوع وإيقاظ النيام لتناول وجبة السحور، مع تفعيل جولات للحصول على هدايا وإكراميات، نظير شهر كامل من التطوع. وفي الوقت الذي لم يعد للنفار وجود في العديد من المدن المغربية، بعد أن تقلص دوره أمام وسائل أخرى يُعتمَد عليها للاستيقاظ مع ظهور الساعات المُنبهة والهواتف الذكية وتطور وسائل السمعي البصري من مكبرات الصوت والراديو والتلفاز و”البارابول”، ما زال “النفار” يواصل نشاطه الرمضاني الموسمي في بعض أحياء جنوب آسفي، بعدما أصبحت مهمة مصادفة “النفار” خلال الساعات الأخيرة التي تسبق الفجر وموعد الإمساك صعبة، إن لم نقل مستحيلة ببعض الأحياء بآسفي.
و”النفار” بآسفي تختلف أسماؤه، فهناك: “الغياط” أو “النفار” أو “الطبال”
لكن يبقى اسم “النفار” هو الأشهر عند المغاربة، حيث إن لكل حي “نفاراً” خاصاً به، أو أكثر حسب مساحة الحي وكثرة سكانه، فهو الشخص الذي لا يحلو شهر رمضان من دونه، وكأن عمله الرمضاني تتمة للوحة رمضانية لن تكتمل إلا بوجوده. ومهمة “النفار” ليست بالسهلة وغير متأتية لأي كان، كما يخيل للبعض، لارتباطها بأحد الطقوس الرمضانية التي يبدأ بها الصوم، وهو السحور، ويفترض أن تتوافر في “النفار” شروط ومواصفات لا بد أن يتمتع بها حتى يحظى بشرف تولي هذه المهمة، فيجب أن يكون ذا ثقة عند الناس، وحسن السمعة.
قديماً كان يُشترط في صاحبها المواظبة على الصلاة، وطهارة النفس أو حُسن السلوك، فضلاً عن إلمامه بأصول مهنة “النفير”، وأن يكون حافظاً عدداً من التراتيل والأناشيد، وعاشقاً لها وضابطاً لخريطة التجوال. وتتطلب هذه المهمة قدرة جسدية وتحمل مشقة الطواف عبر الأحياء والأزقة.
وعلى الرغم من أن وسائل التكنولوجيا الحديثة أثرت على “النفار”، وجعلت دوره في طريق الانقراض، فإنه لا يزال بآسفي يصرّ على المقاومة ويتمسك بعاداته، رغم أنه يدرك أن غالبية الناس لم تعد في حاجة إلى خدماته، خاصة أن الجيل الحالي يسهر حتى وقت متأخر من الليل لمتابعة القنوات الفضائية، وبالتالي الحاجة للنفار بدأت تتراجع، إلا أنه يفعل ذلك من أجل الحفاظ على هذا الموروث الشعبي من الاندثار، وهو موروث ما زالت له مكانة عند بعض الناس، بما يحركه فيهم من نوستالجيا ومتعة، وما تضفيه دقات طبل “النفار” في شهر رمضان من نكهة وطابع خاص، تُضاف لصوت المدفع و”الزواكة”، كما تسميها ساكنة آسفي، إيذاناً بالإفطار أو الإمساك.
ومصطلح “النفار”، هو اسم يدل على آلة النفخ النحاسية الطويلة الشهيرة، كما يدل في الوقت نفسه على صاحبها وعازفها. أما أصلها العربي فهو النفير. وتعرفه القواميس بالبوق الذي يضرب لينفر الناس، أي يستنفرهم، ويعجّلهم للسفر والرحيل أو للجهاد، ومن ذلك قوله تعالى في كتابه الحكيم: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً}.
وامتدت اشتقاقات مصطلح “النفار” إلى لغات أخرى غربية، كالفرنسية والبرتغالية والإيطالية وغيرها. ففي الفرنسية، مثلاً، نجد مصطلح La fanfare وتعني الجوقة النحاسية أو موسيقاها. و”النفار” شخصية معروفة بالتجوال بين الدروب والحواري ينفخ في صور طويل نحاسي، يرسل به صوتاً قوياً يعلم السكان بالاستعداد لشهر الصيام، ومن حين إلى آخر يوجه فوهة نافوره إلى النوافذ والأبواب، وترى الأطفال من حوله يقفزون ويمرحون، بينما من المارة من يكرمه بالمال أو بقطع السكر والشاي والتمر، مرسخين بذلك لسنّة حميدة في التضامن والتكافل الاجتماعيين. ومن بين المقولات التي يرددها كل من “النفار” أو “الطبال”، وكذلك “الغياط”، نذكر منها “مْبَارَكْ هَذا الشْهَرْ أَمَّالِينْ الدَّارْ، اعْطِيوْنَا حَقْ النَّفَّارْ، لاَ إِلَه إِلاّ اللهْ.. لاَ إِلَه إِلاّ اللهْ رَبِّي وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهْ.. فِقْ تْسَحَّرِ يَا النَّاعَسْ، صَلِّي الفْجَرْ وَنْوِي صْيَامُو، رَا رَمْضَانْ غَادِي، سَعْدَاتْ اللِّي صَامُو وقَامو واعْمَلْ بِحْسَابُو”.
ويُعد بلال بن رباح -رضي الله عنه- أول “مسحراتي” في التاريخ الإسلامي، حيث كان يجوب طوال الليل لإيقاظ الناس للسحور بصوته العذب، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “بلال ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم”، وكان ابن أم مكتوم هو الذي يتولى أذان الفجر. ومنذ ذلك التاريخ أصبح “المسحراتي” أو “النفار” مهنة رمضانية خالصة.
وبحسب بعض الروايات، فقد ظهرت مهنة “النفار” تاريخياً في المغرب بمدينة مراكش في القرن السادس عشر، في عهد السعديين، حيث يروى أن “لالة عودة السعدية (مسعودة الوزكيتية أم المنصور الذهبي) كانت تتجول ذات زوال رمضاني وسط بستانها اليانع بكل ما لذ وطاب من أنواع الفواكه، فلم تنتبه إلا ويدها تمتد لخوخة شهية، تناولتها بلذة وشغف، قبل أن تنتبه إلى كونها في حالة إمساك وصيام. وفي محاولة للتكفير عن هذه الهفوة قررت تسخير وتجنيد أصحاب “النفار”، للصعود فوق جوامع مساجد المدينة، والسهر على عزف أناشيد وتراتيل، تنبه ألحانها الغافلين، وتوقظ النائمين”.
وفي رواية أخرى تقول إنها “فطرت عمداً في رمضان، وندمت ندماً شديداً، وهو ما جعلها تحبس كل ما تملكه من ذهبها الخالص لفائدة “النفافرية” على أساس أن يقوموا بالدعاء لها وأن يطلبوا من الله أن يغفر لها”. ومن يومها كان “النفار” ينشد على نغمات نفاره “عُودَة كَالَتْ رَمْضَانْ بِالخُوخْ والرَّمَّانْ اغْفِرْ لَهَا يَا رَحْمَانْ”. وقد اهتم الفن المصري عبر التاريخ بـ “المسحراتي”، ومنهم الشاعر بيرم التونسي، والفنان سيد مكاوي، والشاعر فؤاد حداد، والشاعر جمال بخيت، والفنان إيمان البحر درويش، الذين أبدعوا في تقديم “المسحراتي” في التلفزيون المصري.
“النفار” شخصية أقرب إلى الفنان الذي يؤدي دور البطولة على خشبة المسرح، حيث لا تتجاوز مدة ظهوره 30 يوماً فقط في ليل رمضان، أما باقي الأبطال فهم الطبلة والعصا أو المزمار، لم يستطع منبه الساعة إلغاءه، وهو شخصية لا يكتمل شهر رمضان بدونه، ذلك أنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتقاليدنا الشعبية الرمضانية. وليس “للنفار” أجر معلوم وثابت، غير أنه يأخذ ما يجود به الناس عليه. فقبل الإمساك بساعتين يبدأ “النفار” بالأحياء الجنوبية لآسفي جولته الليلية، موقظاً الأهالي للسحور، وهو يحمل طبلته في رقبته، فتتدلى على صدره أو يحملها بيده، ويضرب عليها بعصا خاصة تُحدث أصواتاً معروفة، بإيقاع مميز، تعرفه الساكنة ويستيقظون عليه. وخلال النهار يتجول بين الحواري ليطرق خلالها أبواب البيوت، لجمع ما يجود به الناس عليه من نقود أو من خلال إطعامه، كما يبشر الساكنة برؤية هلال العيد، ثم يقوم بجولة أخيرة صباح العيد لجمع “الفطرة”، زكاة الفطر أو ما يُعرف بـ”العيدية”، لأن بعض الناس تراه مستحقاً لها. ومعظم من يمارس هذه المهنة الرمضانية بالهواية، لا ينتظرون الحصول على مال كثير من الصائمين، إذ تنتهي الرغبة في الحصول على الحسنات، وفي أحسن الأحوال الاستفادة من الفطرة.
وتشكل الطرافة جزءاً لا يتجزأ من مهنة “النفار”، إذ لا يكتفي أن يسير لقرع طبلته في الحواري والأزقة والشوارع، لكن يحدث أحياناً أن يعرف أن فلاناً نومه ثقيل، فيقف تحت نافذة بيته وقتاً أطول، ويصرّ على مناداته باسمه.
وكانت في الماضي قد سادت بآسفي بعض المعتقدات بين ساكنة آسفي، مثل أن يطلبوا منه أن ينفخ بآلته داخل البيت، حتى يسمع صدى النفير في كل أرجائه؛ تيمناً ببركة هذا الشهر الفضيل، أو صَبِّ كوب ماء في آلة النفير وتمريرها داخلها، ويسقونها الأطفال المصابين بالتأتأة وتأخر النطق طمعاً في شفائهم.
وبالرغم من كون “الزواكة” والمدفع ينطلقان اليوم بآسفي لتنبيه الصائمين بموعد الفطور والسحور، يبقى “النفار” شخصية رمضانية تراثية عميقة ومحبوبة، حيث كان قديماً يحظى قبل الجميع بفطور لذيذ شهي صباح العيد، عنصره الرئيسي رغائف بالزبدة البلدية أو شفنج مطفي في عسل النحل الصافي الحر، وكوب قهوة بالأعشاب الطبية، أو كأس شاي بالأعشاب المنسمة.
حرفة “النفار”، وإن كانت تظهر وتختفي في شهر رمضان، غير أنها تتجه نحو الانقراض، لأنها لم تعد تؤمّن رزق أصحابها، ويكفي اختفاؤه من جل الأحياء الراقية والمتوسطة بآسفي، مع اقتصاره على بعض الأحياء الشعبية التي تصر على تحدي الزمن، كما أن معظم “النفارين” تخلوا في السنوات الأخيرة عن مهنتهم الرمضانية، ومنهم من تحول للعمل داخل مجموعات موسيقية شعبية، ومنهم من امتهن التسول بمزماره أو طبلته داخل الأحياء السكنية وحافلات النقل الحضري والقروي، وقليل منهم ركن مزماره إلى جنب باقي أرشيفه وعتاده المهمل، وبحث عن حرف ومهن أخرى تؤمن له حياة أوفر حظا، إلا أن آلة “النفار” بآسفي لا زالت حاضرة في الكثير من الأهازيج الفلكلورية، كالدقة المراكشية والفرق العيساوية والفرق الكناوية وأداة من أدوات تشجيع الفرق الرياضية،كما بدأت تأخذ دوراً متزايداً في الأعراس، حيث يصاحب “النفارون” العرسان في كل تحركاتهم ليلة الزفاف.