عروبة الإخباري
مر ١٢٥ يوماً على العدوان الإسرائيلي غير المسبوق على غزة وأهلها، الذي أدى لسقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين، ناهيك عن الدمار الممنهج لمرافق القطاع وأبنيته، وتستمر المعاناة في غزة، أمام صمت عالم آثر أن يبقى متفرجاً على معاناة الغزيين، كما اختار أن يبقى كذلك طوال عقود ماضية على ظلم تاريخي لحق بالشعب الفلسطيني بأكمله. وتستمر معاناة الغزيين في ظل إصرار حكومة الاحتلال على مواصلة عدوانها في غزة، وتوجه يميني عام في المجتمع الإسرائيلي يكنّ العداء المعلن للفلسطينيين. يأتي ذلك على الرغم من الخسائر الإسرائيلية الفادحة التي تتصاعد في كل لحظة، سواء كان ذلك على مستوى الخسائر البشرية أو على الصعيد الاقتصادي، الذي يستطيع أن يرصده المتابع داخل الأراضي المحتلة بيسر، أو على المستوى السياسي الدبلوماسي والشعبي، والذي تترجمه بوضوح نتائج التصويت في الجمعية العامة على قرارات طالبت بوقف إطلاق النار في غزة، والتظاهرات الشعبية التي تجتاح عواصم ومدن العالم. وذلك رغم موقف الولايات المتحدة غير المفاجئ، الداعم تاريخياً وأيديولوجياً لإسرائيل، وعدم رغبتها بالضغط على إسرائيل لوقف عدوانها على غزة، وهو الموقف الذي كلفها على المستوى الداخلي الأميركي وعلى مستوى علاقاتها الشرق أوسطية، وحتى على المستوى الدولي، وأضر بسمعتها، وجعلها شريكاً في هذا العدوان، رغم مساعيها السابقة للانسحاب من المنطقة بأسرها. ورغم ذلك هناك عوامل أخرى على الجانب الآخر، كشفت عنها هذه الحرب غير المتوازنة، تشير إلى احتمال الوصول القريب لنهاية هذه الحرب.
واجه الفلسطينيون هذا العدوان الجائر بصمود وتحدٍ، لم يشهد العالم مثله قط. فصمود الغزيين في غزة، وبقاؤهم في منازلهم في شمال القطاع يعد أسطورياً، فما يواجهه الفلسطينيون في غزة من استهداف مباشر قاتل لا يترك مجالاً للتفكير إلا في الهرب والنجاة بالنفس. ولم ينس العالم بعد مشهد هروب الأوكرانيين بالملايين وهجرتهم خارج بلدهم، طلباً للأمان، رغم أنهم لم يواجهوا مثل تلك المجازر التي تعرض لها الغزيون. وهذا الصمود منقطع النظير عطل حتى الآن مخططات الاحتلال بتهجير الفلسطينيين، وهي أهداف لم يستطع الاحتلال إخفاءها منذ بداية عدوانه على غزة.
وبالإضافة للصمود، يمتلك الفلسطينيون قدرات التصدي للعدوان والدفاع عن النفس، وهو حق منحه الدين والقانون للإنسان عموماً، والذي يقبع تحت الاحتلال بشكل خاص. فصمود المقاومة في غزة، قوّض مخططات القوات الاسرائيلية المعتدية، وجعل الخبراء الأمنيين بعد مرور أكثر من أربعة شهور يشككون بإمكانية هزيمة المقاومة في غزة. إن مقومات الصمود والتحدي لا يمتلكها الغزيون فقط، فقد وقفت الضفة الغربية صامدة متحدية لاعتداءات سلطات وقوات الاحتلال، مساندةً غزة بكل ما أوتيت من قوة، فباتت الضفة جبهة أخرى بجانب غزة، وبات الوضع الأمني في الضفة يشكل عبئا إضافياً على الاحتلال.
ولعل وجود محور داعم ومساند للمقاومة في غزة يعد عنصراً إيجابياً مهماً لتكبيد المعتدي ثمناً إضافياً، وجعله يضع ذلك ضمن حساباته لاستمرار اعتدائه. على الرغم من أن المقاومة في غزة تحملت وحدها مسؤولية هجوم السابع من أكتوبر، كما تحملت غزة حصرياً نتائج ذلك الهجوم. ورغم أن نجاح الهجوم وتبعاته أيضاً جاءت خارج إطار أي توقعات منطقية، إلا أن الحلفاء الإقليميين آثروا الوقوف إلى جانب غزة ودعمها، وقد رفع ذلك من أسهم الحلف إقليمياً، ومكانته السياسية، ناهيك عن تكبيد الاحتلال وحلفائه مزيداً من الأثمان. لم يتخل حزب الله عن المقاومة في غزة، وعمل على تشكيل ضغط عسكري أمني على الاحتلال، ضمن حسابات ومعادلات مصقولة، سعت لعدم وصول لبنان لحالة حرب مكلفة مع الاحتلال الإسرائيلي. كما أعلن الحوثيون دعمهم لغزة، وذلك عبر منع السفن الاسرائيلية او التي ستذهب لإسرائيل بالمرور بمضيق باب المندب. كما ارتفعت وتيرة استهداف القوات الأميركية في العراق وسورية، على خلفية العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، الأمر الذي زاد من التوترات الإقليمية في المنطقة، وعرض الوجود الدخيل للقوات الأميركية لتحديات إضافية.
إن هذه التطورات جاءت في مصلحة الجهات التي وقفت مع الفلسطينيين ودعمتهم خلال العدوان الإسرائيلي المستمر، رغم الوصف الأميركي الغربي لتلك الجهات بالارهاب، ولعبت دوراً مهماً في تقويض مخططات إسرائيل والولايات المتحدة فيها. استخدمت المقاومة الفلسطينية الإعلام لتوصيل رسالتها بشكل مدروس، قوّض إلى حد كبير ادعاءات الاحتلال حول سلوكها، بالتزامن مع الجرائم والمجازر الاسرائيلية التي تمت تغطيتها بتلقائية وشفافية، فكشفت للعالم عن الوجه الحقيقي لطبيعة هذا الاحتلال، الأمر الذي منح المقاومة الفلسطينية اليوم شرعية ومكانة عالمية كان من الصعب تخيّلها في الماضي. هذا التعاطف والدعم العالمي للقضية الفلسطينية، الذي ساهم عدوان إسرائيل على غزة في تأجيجه، منح المبرر بل والمكانة حتى للجهات التي دعمت غزة. إن شرعية القضية الفلسطينية والحق الفلسطيني منح الحوثيين مكانة عالمية جديدة، وضعتهم في مكانة المدافعين عن الحق ومناهضة الاحتلال الإسرائيلي. فاعتبر الحوثيون أن مهاجمتهم السفن الإسرائيلية او المتجهة صوب إسرائيل تأتي في سبيل الضغط لوقف العدوان على غزة، واعتبر الحوثيون أن مبررات تلك الهجمات تأتي في سياق القانون، وفق المادة الأولى من معاهدة وقف الإبادة الجماعية، التي تعطي الحق في المادة الأولى لأطرافها باستخدام الرسائل الممكنة لمنع مثل تلك الجرائم، كما استخدمتها جنوب أفريقيا بالذهاب لمحكمة العدل الدولية لمحاسبة إسرائيل.
جاء العديد من التطورات الإضافية في المنطقة لغير صالح إسرائيل وحليفتها واشنطن، على رأسها تقويض كل مساعي الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، والمضيّ قدماً في اتفاقيات التطبيع العربي مع دولة الاحتلال على حساب حل القضية الفلسطينية. واليوم، وبعد هذا العدوان الدموي على غزة، باتت المطالب من قبل الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة يتصدّرها حل القضية الفلسطينية أولاً، وقبل أي مشاريع تطبيع جديدة، وهو الأمر الذي يحدث خللاً كبيراً في المعادلة التي سعت الولايات المتحدة وإسرائيل لإرسائها خلال السنوات الماضية. كما اتحدت المواقف العربية اليوم باتجاه ضرورة وقف إطلاق النار في غزة أولاً، وحل القضية الفلسطينية، في اتفاق مهم للمواقف لصالح مستقبل القضية الفلسطينية. ولا يمكن التجاوز عن التقارب الذي يحدث اليوم بين إيران والدول العربية في المنطقة، والذي بدأ قبل عدوان الاحتلال على غزة، إلا انه بات أكثر إلحاحاً اليوم ليفتح المجال لأخذ أشكال أكثر تطوراً. إن هذه التطورات يمكن لها تقويض المعادلة الأمنية التي سعت الولايات المتحدة لفرضها في المنطقة خلال العقدين الماضيين، بفرض إسرائيل كشريك أمني لدول المنطقة، ووضع إيران كعدو لها، بعد أن كشف العدوان حقيقة الاحتلال وحقيقة الدور الأميركي في المنطقة. إن التفاهمات الأمنية والسياسية والاقتصادية لدول المنطقة الأصيلة كالدول العربية وإيران وتركيا، قد يفرض على إسرائيل وحليفتها حل القضية الفلسطينية، كشرط للقبول في تحالفات المنطقة مستقبلاً.
إن مساعي إسرائيل للاستمرار في عدوانها على غزة، وإطالة مدة الهجوم، بتكتيكات ليست خفية على الخبراء الأمنيين والعسكريين، هي تكتيكات غير مضمونة النتائج، وتعني استمرار حالة الاضطراب ليس في غزة وحدها بل في المنطقة بأسرها، في سبيل تحقيق مكاسب ذاتية لرئيس الوزراء وحكومته اليمينية، تضمن بقاءهم على سدة الحكم لأطول فترة ممكنة، والوصول إلى أهداف ميدانية ليس من السهل تحقيقها، لن يكون في صالح إسرائيل ولا الولايات المتحدة. ولا تخرج المساعي الحثيثة التي تجري مؤخراً للوصول لصفقة لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وتبادل الاقتراحات عن التطورات الميدانية في أرض المعركة والتطورات الإقليمية سابقة الذكر، والتي ستفرض واقعاً جديداً في المنطقة.