عروبة الإخباري – تمرُّ بالعالم العربي والإسلامي فترة تغيرات حرجة تجري فيها الأحداث بغير ضابط عقلاني، أو وازع أخلاقي، مما يخلق أسئلة تبدو حائرة تُثار أمام الرأي العام فتزيده قلقاً على صحة قناعاته، وتبحث عن إجابة عند العلماء فلا تجد، في كثير من الأحيان، ما يؤهلها للوقوف في مواجهة واقع يتناقض معها بشكل صارخ، لأنها إجابات تتعارض مع صحيح الدين، ويرفضها العقل، ولا يجيزها المنطق، ولا يقبلها الذوق السليم. وكلما ازدادت الأسئلة تنامت معها الحيرة، وفقد الناس بوصلة التوجيه نحو الصراط المستقيم، خاصة في موضوعات مثل حرية الاعتقاد.
لقد كرَّم الله الإنسان لعقله وحريته مهما كان دينه ومعتقده: «ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا،» (الإسراء : 70)، لأن الحرية هي امتداد لمشيئة الله التي اقتضت أن يخلق الناس مختلفين، يقول تعالى: «وَلَو شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ.» (هود 118)… «وَلَو شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسأَلُنَّ عَمَّا كُنتُم تَعمَلُونَ.» ( النحل : 93 ).
وأكد القرآن الكريم أن إرادة الإنسان هي المنطلق الأول للإيمان وليس القهر والإجبار لأن قوانين القلوب تحول دون إكراهها على شيء أبداً… «إِنَّ هَذِهِ تَذكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا» (الإنسان: 29).
ويؤكد الإسلام على مسؤولية الإنسان عن القرارات التي يتخذها في حياته. فالإنسان هو من سيتحمل نتائج اختياره وليس أحداً غيره. ومن هنا جاءت آيات عديدة تؤكد على الحرية الكاملة للإنسان في اعتناق الدين الذي يريده وعدم الإكراه على الإيمان، «وَلَو شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرضِ كُلُّهُم جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤمِنِينَ.» (يونس: 99). وجاء في قوله تعالى: «فذكر إنما أنتَ مذكر، لست عليهم بمسيطر.» (الغاشية:21-22 )، و»نَحنُ أَعلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّر بِالقُرآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ.»( ق: 45 )
ولم يرد في القران الكريم حكماً حاسماً عن الردة، بل أن القول بقتل المرتد لا ينسجم أبداً مع نهي القرآن عن الإكراه في الدين «لا إكراه في الدين»، ولا مع نهيه لنبيه -صلى الله عليه وسلم- عن استعماله مع أحد من الناس «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.» (يونس: 99).
إن وجود الإسلام وانجازاته الحضارية الكبرى لم يقم على القهر والاستبداد، ولذلك فإن تغيير بعض الناس لمعتقداتهم لن يقوض الإسلام ولن يؤثر على مسيرته الحضارية، كما أن هذه المشكلة هي إنسانية عامة لا تقتصر على أتباع دين بعينه.
بيد إن الإكراه والإجبار يصنعان النفاق ولا يخدمان الإيمان، والتخويف والقتل لا يساعدان المسلمين على إظهار رسالة الإسلام العظيمة التي تقوم على الرحمة والعدل والتبصر.
ويزداد الإحساس بالخوف والتهديد حيال مسألة حرية الاعتقاد مع ضعف الثقة بالنفس، وهذا الإحساس يحرك كثيراً من أسباب العنف والتطرف الذي نجده عند جهلة أتباع الأديان في هذه القضية. كما أن التشريعات والقوانين التي لا تحترم حقوق الإنسان وحريته باختيار طريقة تفكيره ومعتقداته ستؤدي إلى نظم قمعية وصيغ لا تخدم رسالة الدين ولا مجتمعاتنا الإنسانية. ويحوي التراث الفقهي الإسلامي تنوعاً وثراءً كبيراً حول هذه القضية، فمن الفقهاء من قال إن المرتد « يودع السجن ويستتاب أبدا. «
وهذا الرأي يشكل منطلقاً معقولاً لحل المشكلة، فلا معنى لتحديد مدة معينة وذلك لأن الناس يتباينون في قناعتهم ويحتاجون إلى وقت وحوار أكثر من تلك الأيام الثلاثة التي ذكرها الفقهاء.
ويجب أن نتذكر أن ما دفع الناس إلى اعتناق الإسلام هو ما وجدوه في تعاليمه من حرية وعدالة بعيداً عن الأنماط السائدة في القرون الوسطى، إذ كانت ديانة الإمبراطورية هي القهر لمن يعيشون تحت حكمها.
لو كان ترك المعتقدات الدينية مرفوضاً بعمومه، فكيف لغير المسلم أن يصبح مسلماً، كما أن هناك فرقاً كبيراً بين من يترك دينه لأنه لم يجد فيه تلك الإجابات والمعاني السامية، التي كان يبحث عنها، وبين من يترك دينه ليثير فتنة وصراعاً يقوض وحدة المجتمع وتماسكه.
ليست حرية الاعتقاد هي المشكلة الجوهرية وإنما المشكلة هي اختلال الأفهام وانحراف السلوك وضعف القيم الأخلاقية والروحية، فالناس إنما يخرجون عن أديانهم ويعيدون النظر في معتقداتهم عندما يرون أشكال التخلف والتزمت والعنف التي ارتكس إليها بعض أتباع دينهم. كما أن سوء فهم الدين وخلطه بنزعات القهر والاستبداد هو ما يؤدي إلى تنفير الناس من الدين وتخويفهم منه.
إن الرحمة والعدالة والبحث عن الحرية هي التي تجعل الناس يستبشرون بالدين ويلجأوون إليه… يقول الله تعالى:» فَبِمَا رَحمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلب لاَنفَضُّوا مِن حَولِكَ فَاعفُ عَنهُم وَاستَغفِر لَهُم وَشَاوِرهُم فِى الأَمرِ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ.» (آل عمران: 159).
ولم يمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- بحسب ما جاء في صلح الحديبية أحداً ممن يرغب من أصحابه أن يلحق بقريش. وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قبل بهذا الأمر فكيف لنا أن نرفضه وندعي أنه سنة رسول الله… «إِنَّكَ َلا تَهدِى مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ.» (القصص: 56) .
يعلمنا القرآن ألا نستغرب أن يغير بعض الناس دينهم: «يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِى اللّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ» (المائدة :54 ). «وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم ثُمَّ َلا يَكُونُوا أَمثَالَكُم.» (محمد: 38).
لا بد أن ينهض العقلاء ويعيدوا للتعاليم الدينية تسامحها وإنسانيتها. أمام مؤشرات تنذر بتحول الهويات الدينية إلى أيديولوجيات صراعية وتنظيمات قتالية لا علاقة لها بالقيم الإنسانية الحقيقية. وتنحسر مساحة الحرية كلما انحسرت قدرة الإنسان على فهم معتقداته الدينية، ولذلك فإن تراجع مساحة الحرية في عالمنا الإسلامي هو المشكلة التي يجب التصدي لها.
ولا بد لنا أن ندرك أن قمع حرية الاعتقاد يقوِّض مشروعية الدعوة إلى الإسلام، لأن الأغلبية العظمى من الناس هم من غير المسلمين. وأن الحرية هي مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية، ولا قيمة لأي عبادة أو طقوس يقوم بها الإنسان بعيداً عن إرادته واختياره الحر.
ويمثل تجسيد حرية الاعتقاد القاعدة الذهبية في الأخلاق، التي يؤمن بها عموم أتباع الأديان؛ «أن تفعل للآخرين ما تحب أن يفعله الآخرون لك» «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»
وتتنافى حرية الاعتقاد مع النفاق والقبول الكاذب بالدين وتجعل الإنسان أكثر انسجاماً وصدقاً مع نفسه وغيره. إذ تضمن حرية الاعتقاد بقاء التعدد والتنوع الذي أراده الله بين الناس والذي جعله منطلقاً للتدافع والتعارف بينهم وبذلك تتكامل جهودهم وانجازاتهم وترتقي مجتمعاتهم.
ويصبح الدين بلا مضمون عندما يفقد الإنسان حريته في اختيار عقيدته، فالحرية هي التي تعطي للدين مضمونه الإيجابي، أما الإكراه الذي هو نقيض الحرية فهو يمثل «الخروج الأكبر» عن الدين وقيمه الجوهرية.
إن القول بحظر حرية الاعتقاد يتنافى مع قيم العدل والمساواة، فكيف يمكن للكلمة أو الفكرة أن تُقابل بالقتل أو الإعدام؟ فكما أن العين بالعين والسن بالسن، فإن الفكرة تُقابل عند العقلاء بالفكرة والحُجة بالحجة والرأي لا يقابل عند الحكماء إلا بالرأي.