لا يمكن عزل وقائع زيارة البابا فرنسيس الأول لفلسطين المحتلة عن سياق تطور العلاقات خلال العقود الأخيرة بين الفاتيكان والكيان الصهيوني. كما لا يمكن إغفال مغزى كونها الزيارة البابوية الأولى له خارج حاضرته الفاتيكانية منذ تنصيبه رئيسًا للكنيسة الكاثوليكية والذي لم يزد عن الأشهر. وأن وقائع هذه الزيارة وكل ما نم عنه الخطاب البابوي المرافق لها لا يعدو مراكمةً على ما كانتا قد سبقتاها من زيارتين باباويتين لسلفيه الأقربين، يوحنا بولص في العام 2000، وبنديكتوس السادس عشر في العام 2009. الأول صلى أمام حائط الأقصى الغربي، أو حائط البراق، الذي يطلق الصهاينة عليه مسماهم حائط المبكى، والثاني أطنب في تذكُّر المحرقة اليهودية وأغفل الفلسطينية، أو ضحايا ضحايا الأولى. أما البابا الراهن فساوى في كل ما صدر عنه إبان حجيجه بين الضحية الفلسطينية والجلاد الصهيوني، وهذا وحده كافٍ للقول إن محصلة زيارته هذه كانت تصب في خانة المصلحة الصهيونية أولًا وأخيرًا وتنحاز لها، وبالتالي يمكن أن تعد من مكتسبات الاحتلال، وإلا ما كانت أصلًا، أيهما سهَّل الصهاينة إتمامها، أو على الأقل هم لا تعوزهم إمكانية عرقلة حدوثها. وكافٍ أيضًا لدحض كونها “دينية محضة” وفق وصف صاحبها لها.
ولعل في كل ما سبق ما يسفِّه تهافت الأوسلويين الفلسطينيين وداعميهم من العرب الذين اتخذوا من اقتطاعه لسبع ساعات من زيارته التي استمرت ليومين ليخص بها مدينة بيت لحم المحتلة، والتقائه خلالها رئيس سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود تحت الاحتلال، وصلاته أمام البوابة الحديدية في جدار الفصل التهويدي الخانق للمدينة، أو مروره من مخيم الدهيشة الذي تحتضنه، وكأنما هو انحياز منه للحق الفلسطيني استحق منهم تطبيلًا وتزميرًا طغى عندهم على كل ما عداه من وقائع الزيارة.
إن كل ما كان منه فلسطينيًّا في بيت لحم، أو على هامش حجيجه لمهد السيد المسيح، هو ما لا يختلف إلا باختلاف رمزية صاحبه عن ما يقوم به كثر من الزوار الدوليين للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، أو من يحللون زيارتهم، أو يغطّون انحيازهم للغزاة المحتلين، بزيارة خاطفة لرام الله المحتلة. وكذا حال بعض المطبعين العرب، نخبًا ومثقفين، من الذين يدخلون فلسطين المحتلة بتأشيرات من المحتلين، بذريعة الذهاب للتضامن والتواصل مع الفلسطينيين تحت الاحتلال.
ولا يختلف عن هؤلاء بطريرك الموارنة الراعي الذي ذهب مطبِّعًا لملاقاة البابا في المحتل من الوطن العربي بدعوى حرصه على رعاية رعيته هناك، والتي كان منها إقامته قداسًا لعائلات اللحديين اللبنانيين المتعاونين مع الصهاينة إبان احتلالهم لجنوب لبنان والذين فروا معهم إثر تحرير المقاومة اللبنانية له، ووصفه لهم بالضحايا!
إن ما كان من البابا في بيت لحم هو ليس إلا ما كانت تقتضيه منه ضرورات قيامه أصلًا بهذه الزيارة، إذ لا يمكن لمثله القيام بها للأراضي المقدسة من دون زيارته للمدينة التي ضمت مهد السيد المسيح، ولا يمكن الدخول أو الخروج من هذه المدينة المحتلة دون المرور من أمام جدار العزل التهويدي الذي يخنقها والذي يصعب لزائرها تجاهله، أما لقاؤه مع عائلات مسيحية فلسطينية، أو أطفال لاجئين، أو زيارته للمسجد الأقصى والالتقاء بمفتي القدس هناك، فتمسحه تمامًا وتغطي عليه زيارته لمقبرة تيودور هيرتزل مؤسس الحركة الاستعمارية الصهيونية، ووضعه إكليلًا على قبر الجنرال رابين مُكسِّر عظام الأطفال الفلسطينيين، ثم زياراته لكل من متحف “اياد فاشيم”، وحائط المبكى، وللحاخامين الأكبرين في الكيان الصهيوني لليهود الغربيين والشرقيين، ولبيريز في مقر رئاسة الكيان الغاصب، واستقباله لرئيس وزرائه نتنياهو، أو كل هذا الذي تجاهله المطبلون والمزمرون لما تفضل عليهم به في بيت لحم!
من هنا، فإن خير ما توصف به هذه الزيارة البابوية هو ما جاء من جهة مسيحية فلسطينية، وقد تمثل فيما وصفها به الأب يوسف سعادة راعي كنيسة الروم الكاثوليك في مدينة نابلس المحتلة، وهو أنها زيارة “تطبيعية وتسليم لإسرائيل بما تفرضه من وقائع على الأرض”، وعليه فهي كما قال “سياسية”، إذ هي عنده ليست للحج لأنها لا تتلازم مع مناسبات دينية، وليستطرد قائلًا، “وهي بذلك مست بحقوقي كفلسطيني”، أما ما كان منها لبيت لحم فكانت عند الأب سعادة زيارة “دخيلة وليست أصيلة”، وللأسباب التي كنا قد عددناها آنفًا، وأولها أنه لا يمكن له زيارة الأراضي المقدسة دون التعريج على مهد السيد المسيح.
المؤسف أن زيارة البابا فرنسيس الأول لفلسطين المحتلة قد تجاهلت موضوعيًّا جاري التناقص المريع لمسيحييها، الذين تدنِّس غارات وكتابات غلاة الصهاينة حوائط كنسهم وأديرتهم، والتي لطالما خُطت عليها عبارات حاقدة ومنذرة من مثل “الموت للمسيحيين”، و”سنصلبكم”. كما أنها ليست في صالح راهن الأوضاع المسيحية العربية القلقة في الوطن العربي أو مستقبل الوجود المسيحي مطرد التراجع فيه. وإذ هي تأتي في سياقٍ مراكمٍ للتطور في العلاقات الفاتيكانية الصهيونية، فهي بحق السياسية في اللبوس الدينية، أو تماما كما وصفها الأب يوسف سعادة، حيث توَّجها الحبر الأعظم بدعوته لكل من بيريز وأبي مازن للحاق به إلى الفاتيكان “لإقامة صلاة سلام خاصة” في بيته… أي دعوة منه لمفاوضات تصفوية أخرى، لكن برعاية فاتيكانية في هذه المرة!
عبد اللطيف مهنا/حج تطبيعي ودعوة لصلاة تفاوضية!
19
المقالة السابقة