هل فيما جد على راهن العلاقات الروسية ـ الصينية ما يجعلها في طريقها لأن تتخطى حدود الشراكة الاستراتيجية، وهى القائمة فعلًا، إلى عتبة الدخول في تحالف لهاتين لقوتين العظميين الصاعدتين؟ وبالتالي، هل نحن فعلًا أمام خطوات تدشينية حازمة تبشِّر بتشكُّل حثيث تلوح إرهاصاته لنظام دولي جديد؟
لعل فيما نمي من وقائع زيارة الرئيس الروسي مؤخرا للصين، وما نجم عنها من مواقف ورسائل وما وقِّع خلالها من اتفاقات، والتي جرت على هامش حضوره لقمة مؤتمر التفاعل وإجراء بناء الثقة في آسيا “سيكا”، ما يؤشر على مثل هذا ويشي به.
لسنا بصدد الحديث عن هذه القمة، وهي الرابعة حتى الآن، على أهمية ما عنته، وقيل وسيقال في مثل هذا الكثير، لكننا سنقتصر على متابعة ما قد تم على ضفافها بين هذين العملاقين، وتحديدا عشية انعقادها… وقف الرئيسان فلاديمير بوتين وشي جي بينج يدشنان المناورة العسكرية البحرية الروسية ـ الصينية المشتركة في قاعدة “اسون” البحرية الصينية والمسماة “التعاون البحري” 2014.
هذه المناورة التي تجري بالذخيرة الحية والمستمرة لستة أيام قبالة سواحل شنغهاي والتي أعلن أنها “تستهدف تهديدًا بحريًّا محتملًا”، هي الخامسة بين الطرفين، حيث كانت أولاهما في العام 2005، وتعد ثالث تدريبات بحرية مشتركة بالقرب من السواحل الصينية، وأُعلن أن الرابعة ستلي في العام القادم احتفاءً بالذكرى السبعين للانتصار على النازية.
قال الرئيس بوتين إن منطقة آسيا والمحيط الهادي “تحتاج إلى هيكلية أمن تضمن الطابع المتكافئ للتعامل والتوازن الحقيقي للقوى وانسجام المصالح”، ومن شأنها أن تحول دون ظهور “أحلاف مغلقة”.
أما بالنسبة للرئيس تشي جي بينج فالمناورة تظهر “التصميم والإرادة القويين للصين وروسيا لمواجهة التهديدات والتحديات معا لحماية الأمن والاستقرار الإقليميين”.
هذان، “التصميم والإرادة القويان”، قد لا تكشف عنهما فحسب أنواع وأعداد السفن الحربية والطائرات المشاركة في المناورة بقدر ما يجعلهما جليين متضحين ما تم من اتفاقات وعقود تعاون وقعاهما.
بالنسبة للمناورة شارك الروس باثنتي عشرة سفينة حربية، من بينها الطراد حامل الصواريخ “فراغ”، ومكافحة الغواصات “الأميرال بانتليف”، والمدمرة “بيتسري”، والإنزال “الأميرال نيفيلسكي”، والمساندة “ايليم”، والقاطرة البحرية “كلارا”، وقاذفتا قنابل “سور ام كا 2″، ومروحيات من طراز “ك 26″، وطائرات أخرى، إلى جانب ثلاث مدمرات وسفينتي حراسة وإمداد صينية وأربعة آلاف جندي.
أما بالنسبة لهذا الذي تم، ووفق البيان الرسمي، فقد شُكِّلت لجنة ثنائية استثمارية يرأسها نواب رؤساء الحكومتين، ومجموعات رفيعة المستوى لإدارة المشاريع الاستراتيجية، كما وُقِّعت العديد من الاتفاقات وعقود التعاون، شملت، الطاقة، والاتصالات، والتبادلات المصرفية، والمواصلات، وصناعة الطيران، بالإضافة إلى ما وصف بتعميق التعاون النفطي، وإمداد الصين بالغاز الروسي، حيث وقِّعت اتفاقية توريد ضخمة لـ38 مليار متر مكعب سنويًّا تقدَّر قيمتها بـ400 مليار دولار وعلى مدى ثلاثين عامًا.
ومع أهمية ما اُتفق عليه في المجالات الاقتصادية بين عملاقين وصل حجم التبادل بينهما العام الماضي إلى الـ90 مليار دولار، ومن المتوقع أن يبلغ المئة مليار بحلول 2015، فإن الرسائل التي أطلقتها المواقف التي تضمنها البيان الختامي هي الأكثر دلالة على حجم هذه الخطوة الجيو استراتيجية التحولية، والمرجح لها أن تكون المنعطف في لوحة التوازنات الدولية الآيلة إلى الارتجاج والتبدل، والتي حتام سيكون لها ما بعدها، لا سيما وأن بوتين يؤكد: “أنا على ثقة بأن الشراكة الاستراتيجية ستتعزز في المستقبل بين روسيا والصين”… ما هذه الرسائل ولمن توجهت؟!
إنها فد استهدفت عنوانًا واحدًا هو هذا التغوُّل المتخبط للقوة المتراجعة السائرة للأفول والتي هي الولايات المتحدة وذيلها الغربي، أو المكابرة الجاهدة للإبقاء أطول مدى ممكن لوحدانية قطبيتها المتآكلة، والتي تركِّز استراتيجيتها الكونية الراهنة على المحيط الهادي وجنوب ووسط آسيا، لاعبة كعادتها على حبال التناقضات الإقليمية هناك ومثيرة لكوامنها، هذا تخصيصًا، وعمومًا سائر سياسات الهيمنة والبلطجة الغربية متعددة التجليات والمظاهر… مثلًا، مما جاء في البيان الختامي، أن “روسيا والصين تشجبان محاولات التدخُّل العسكري الأجنبي في سوريا… وستتصديان لأي تدخُّل في الشؤون الداخلية للدول”، ودعوته “للتخلي عن سياسات العقوبات الأحادية الجانب، وتحويل وتغيير النظام الدستوري في أية دولة، إلى جانب جرِّها إلى اتحادات متعددة الأطراف”.
هذه الرسائل لم تأتِ من عدم، وإنما هي مراكمة مضافة لمواقف عملية سبقت في عديد مظاهر التعاون الصيني ـ الروسي في الساحتين الإقليمية والدولية. تبدى هذا في تصديهما معا للعدوانية الغربية المتجلية في محاولات السطو على قرارات الأمم المتحدة واستصدار ما يتماشى مع هذه العدوانية.
ومن الأمثلة استخدامهما الفيتو ضد مشاريع قرارات من هذا النوع في مجلس الأمن استهدفت سوريا وهدفت إلى إطالة أمد معاناتها وآخرها كان قبل يومين، وفي تطابق موقفيهما حيال الأزمتين السورية والأوكرانية.
وعن هذا يقول بوتين، “إن التعاون الصيني ـ الروسي، بما فيه التعاون في الأمم المتحدة، قد أصبح عاملًا مهمًّا في السلام والاستقرار العالميين”…
جديد العلاقة الصينية ـ الروسية يؤشر على أن تغوُّل وبلطجة قوة إمبريالية هائجة مسها الإحساس بآفة التراجع ومحتوم الأفول قد أسهم في استفزاز القوى الكونية الصاعدة آخذًا في حثها على التسريع في التهيئة لتأبين أحادية القطبية وتسريع استحقاقات أفول الآفلين.
عبداللطيف مهنا/الصين وروسيا… والأكثر من الشراكة الاستراتيجية
21
المقالة السابقة