بالرغم من الصورة الإيجابية العامة لواقع المجتمع الفلسطيني في سوريا قبل الأزمة، تَعَرَضَ المُجتمع الفلسطيني في سوريا طوال السنوات الأخيرة التي سبقت محنَتِهِ لعدد من الأزمات الطارئة التي أصابت صميم بنيته الاجتماعية والاقتصادية وغيرها خلال السنوات الماضية، والتي باتت تُشكل حالة شبه مُستعصية في ظل تراجع العوامل الإيجابية التي قد قفزت بحياة الناس وأوضاعهم على كافة الصعد وكافة المجالات خلال العقود الماضية من عمر اللجوء الفلسطيني الى سوريا.
فقد تَعَرَضَ هذا المُجتمع الفلسطيني في مخيم اليرموك لبروز لهزات وخضات ملحوظة، ولتوالد العديد من الظواهر السلبية المُختلفة خلال العقدين الأخيرين، والتي استبطنت في دواخله وقد بانت مُخرجاتها واضحة خلال الأعوام التي سبقت، حيث بان التراجع واضحاً في الحياة العامة للناس، وبان معه أن مخيم اليرموك وأهله يمرون بحالة جديدة لم تكن موجودة في السنوات التي سبقت، حيث انتشار الأمراض الاجتماعية كالتسرب من المدارس وتراجع مستويات التعليم حتى ولو بالحدود الدنيا، وانتشار ظواهر التدخين عند الصغار، ومعها ظاهرة تعاطي المخدرات (ولو كانت محدودة)… إلخ. وهي ظواهر لا تقتصر على مخيم اليرموك بكل الأحوال بل قد تكون على درجات أدنى في اليرموك قياساً بباقي المناطق في عموم دمشق وسوريا.
نحن هنا لا نجلد الذات، بل نسعى لتقديم وتشخيص الجوانب السلبية بروح إيجابية وعقلية ناقدة. حيث تلك الحالة العامة التي كانت مؤشراتها تَدُلُ على التردي العام، وكانت وما زالت تتطلب الحذر ورفع مستويات المسؤولية لدى مُختلف الأطراف المعنية بالشأن العام الفلسطيني، وفي المقدمة منها منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها المرجعية، وعموم القوى السياسية والفدائية الفلسطينية التي تُشكل جزءاً أساسيًّا من النسيج الوطني والأهلي العام لعموم أبناء مخيم اليرموك والمخيمات والتجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية.
إن تلك الحالة بحاجة لتشخيص دقيق، وتجاوزاً للمنطق العام في الحديث بشأنها، كما هي بحاجة لدراسة علمية سوسيولوجية بعد التشخيص، تقوم على وضع المُعطيات والوقائع، وتحليل النتائج بعين ثاقبة وعقل مُنفتح، دون مزاجية أو إسقاطات أو تقديرات ارتجالية كما يفعل خطباء الكثير من الفصائل.
إن تلك الوقائع، وخصوصاً منها حالات التهميش والأمراض التي غَزَت دواخلنا ومجتمعنا المحلي، دفعت نحو توالد الرغبة عند عموم مواطني فلسطين اللاجئين فوق الأرض السورية للهجرة لأصقاع المعمورة الأربعة، قبل مِحنة مخيم اليرموك وعموم المخيمات والتجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية، لكنها تزايدت بعد المحنة الأخيرة، ولا يلام المواطن فيها.
وعليه، وفي دراسة واقع المجتمع المحلي لعموم اللاجئين الفلسطينيين في سوريا وفي مخيم اليرموك خاصة، نرى أولاً، تفاقم ظاهرة التهميش لهذا المُجتمع، بكل المستويات والأبعاد، وتراجع الفرص بما فيها فُرص العمل، وخصوصاً العمل المهني العالي، والعمل المطلوب لأصحاب شهادات التعليم العالي. فتلك الظاهرة (ونقصد ظاهرة التهميش) جرت وما زالت تجرُ كوارث متتالية. وبالطبع فإن مَرَدُ ذلك لا يعود للناس وحدهم بل لمستجدات وشروط الحياة والمعيشة والعوامل التي تتحكم بمسارات الدورة الاقتصادية، وجودة الحياة والتعليم والصحة ووووو… إلخ.
ثانياً، ظاهرة التراجع في مستويات الحياة، وخاصة في الجانب الاقتصادي منها، وهو أمر تعاضد بشكل كبير مع حالة التهميش التي حولت المخيم باتجاه معادلة (أرياف ومدن) في الدول العالمثالثية، في تجمعه سكاني يتميز بكونه مجتمعاً فتيًّا، ترتفع فيه نسبة من هم دون السادسة عشر من العمر. إن من التداعيات الحديثة للتحول الاقتصادي في المخيم إتساع الفجوة بين الفئات الميسورة والفئات في قاع السلم الاقتصادي. فمقابل ظواهر التهميش والتراجع في مستويات الحياة، هناك ظواهر رفاه طارئة على المخيم من انتشار قاعات ومقاهي الإنترنت الحديثة والأنيقة وانتشار إدخال الأبناء في المدارس الخاصة ذات التكاليف الباهظة، إلى ظاهرة انتشار الخادمات من جنوب آسيا وإثيوبيا. تناقضات كثيرة باتت ملحوظة قبل أزمة اليرموك ومحنته مع تعقد الحياة في جوانبها الاجتماعية والاقتصادية.
ثاثاً، بروز ظاهرة التمزُق الاجتماعي، وهو التمزُق الناتج أساساً عن حالة التهميش المُتزايدة، وقد تفاقمت تلك الظاهرة مع محنة اليرموك الأخيرة، وتشتت الناس، وبحثهم عن الخلاص الفردي والأسري عبر بوابات الهجرة وغيرها، خصوصاً مع قلة الخيارات وغياب الجهات الفلسطينية المعنية عن المتابعة الجدية لأحوال الناس.
رابعاً، تزايد غياب فصائل العمل الوطني عن حياة الناس، وتزايد تراجع تلك الفصائل يوماً بعد يوم، وطغيان حالة الإهمال التي تنتهجها تلك الفصائل للمجتمع الفلسطيني اللاجئ فوق الأرض السورية، بعد أن استنفذت تلك الفصائل ما كانت تريده من هذا التجمع إبان النهوض الكبير لقوى المقاومة في مرحلة العمل من الشتات ومن لبنان على وجه الخصوص. فبات عدد من الفصائل لا يرى أهمية لوجوده بين فلسطينيي سوريا (داخل أطره وهيئاته التنظيمية) سوى تأكيد الحضور التمثيلي بمكتب وشخص متفرغ لا أكثر ولا أقل في كل مخيم أو تجمع فلسطيني، ومع شطب شعارات التحول لمنظمات وقوى وأحزاب جماهيرية كما كانت تطرح تلك الفصائل. عدا عن التسريح التعسفي لأعدادٍ كبيرة من العاملين في القطاع العسكري وغيره منذ عام 1990، الذين باتت فصائلهم تعتبرهم (عالة) عليها، وتركتهم دون ضمانات أو حياة اجتماعية اقتصادية تُليق بهم. وبالطبع فهذا الأمر لا ينطبق بالدرجة ذاتها على جميع القوى الفلسطينية، إنما بتفاوت بين فصيل وآخر. ويحضرني هنا ما سمعته من أحدهم عندما أطلق جُملة مُحددة عام 1990 عندما اعترض البعض على تسريح الناس خصوصاً العسكريين منهم، فكان جوابه السريع بأنهم باتوا (فائض مرحلة).
خامساً، توالد جديد لظاهرة التَسَرُب من التعليم، بما في ذلك من المرحلة الأولى (الابتدائية) بعد أن وصلت الأميه إلى حالة شبه معدومة في الوسط الفلسطيني في سوريا.
سادساً وأخيراً، الأزمة السورية ذاتها التي أحدثت شروخا معينة في الحالة الفلسطينية، وبان من خلالها سوء التقديرات، وسوء رؤية وقراءة الأمور، وغياب التوافق الوطني وهو ما ساعد على وقوع النكبات التي حلّت على فلسطينيي سوريا، وهنا فإن الأمر يحتاج لمُكاشفات ومُصارحات نحن الآن لسنا بصددها حتى لا يتهمنا البعض من المُتسرعين بمنطقهم الطري، العجول، الإسقاطي، وبتهمٍ ما أنزل الله بها من سلطان …
علي بدوان/فلسطينيو سوريا والأزمات الطارئة
14
المقالة السابقة