ربما لا يعني هذا الرقم شيئاً لأغلبية الناس خارج منطقتنا لكنه تاريخ محمل بالكثير بالنسبة لعشرات الملايين من أبناء المنطقة العربية وبضع ملايين من اليهود، فالعام 1948 يعني حسب آفي شلايم (عام انتصار إسرائيلي ونكبة بالنسبة للعرب والفلسطينيين)، فقد أذِن بقيام دولة ( إسرائيل ) وأطفأ ولو مؤقتاً أحلام الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، وفي هذا العام شُرد 750.000 مواطن فلسطيني، وفي مكانهم وعلى أرضهم نشأت دولة استعمارية استيطانية إحلالية ما كانت لتقوم إلا على أشلائهم، وبرغم ذلك وبعد مرور 75 عاما من الشتات و75 من النشوء ما يزال الأمل قائماً لدى أهل الشتات بالعودة والنهوض بنفس الوقت الذي بدأ اليأس والخوف الوجودي يتسرب إلى نفوس أبناء الكيان الناشئ.
ويمكن استقراء هذه النتيجة بمتابعة عينة من أقوال كبار المفكرين والكتاب في هذه الدولة، فها هو آفي شلايم المؤرخ والأستاذ الفخري بجامعة أكسفورد يقول اقتباس (إن الإسرائيليين يقتربون من الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس دولتهم بمزاج حزين وكئيب، ويضيف أن المجتمع الإسرائيلي منقسم بشدة، والبلاد في خضم أزمة دستورية، ولا يوجد إجماع حول كيفية الاحتفال بهذا الحدث) انتهى الاقتباس، وليس آفي شلايم وحده من يبدو متشائماً بل الكاتب المهم آري شبيب والذي ذهب الى مستوى ابعد من التشاؤم كان ذلك في مقال تحت عنوان إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة حيث يقول إننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ ولا حلّ معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال، وتابع أن هناك جواز سفر أجنبيا لدى كل مواطن ليس فقط بالمعنى التقني بل بالمعنى النفسي، ويتابع لقد انتهى الأمر، يجب توديع الاصدقاء والانتقال إلى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس وهناك حيث المتطرفين يجب النظر بهدوء ومشاهدة إسرائيل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، ويستمر الكاتب في تشاؤمه ويقول إن الإسرائيليين جاؤوا إلى فلسطين يدركون انهم حصيلة كذبة ابتدعتها الحركة الصهيونية ولكي يثبت صحة ما ذهب اليه استنجد بعلماء الآثار الغربيين واليهود ومن أشهرهم إسرائيل فلنكشتاين من جامعة تل أبيب والذي أكد أن الهيكل ليس سوى قصة خرافية ليس لها اساس، وأنهى الكاتب مقالته ان لعنة الكذب تلاحق الاسرائيليين، ويوماً بعد يوم تصفعهم على وجوههم على شكل سكين بيد مقدسي أو خليلي أو نابلسي.
لكن الأمر لم يتوقف عند النظرة التاريخية والتاريخية بل تناول المخاوف الديمغرافية فها هو أحد أهم المؤرخين احتراماً في إسرائيل بيني موريس يؤكد على ما يعتقد أنه النتيجة الحتمية للتطور السياسي والديمغرافي في البلاد عندما قال لا ارى اليوم كيف نخرج من هذا المأزق مضيفاً يوجد اليوم عرب أكثر من اليهود بين البحر والنهر والمنطقة حتماً ستتحول الى دولة واحدة ذات غالبية عربية، وأعرب الكاتب عن أسفه بأن بن غوريون لم يطرد جميع سكان فلسطين الأصليين وقال انه في غضون جيل واحد ستتوقف اسرائيل عن الوجود بشكلها الحالي، ويؤكد أن الفلسطينيين سيستمرون بالمطالبة بعودة اللاجئين، وفلسطينيو موريس هم الشعب الفلسطيني نفسه والذي ما يزال بالرغم من كل النكسات والهزائم والتنازلات السياسية متمسكاً بشرعية مطالبه، وبحسب موريس بأن إسرائيل تعرف نفسها كدولة يهودية وهذا حلم كاذب سرعان ما سيزول.
لن يتوقف الأمر هنا عند الكتاب والمفكرين بل تعداهم الى السياسيين فها هو ايهود باراك الذي يعتبر الانقسام الداخلي أسوأ من امتلاك إيران للقنبلة النووية وهو الذي تلاحقه عقدة الثمانين عاماً عندما قال طوال التاريخ اليهودي لم يحكم اليهود لأكثر من 80 عاماً، ومثله فعل نتنياهو عندما قال انه الوحيد القادر على ايصال اسرائيل الى عمر المائة عام، تلك عينة من آراء مفكرين ومؤرخين وسياسيين تؤكد على الهواجس الكامنة في عقول وقلوب أولئك، وهذه لم تأت من فراغ بل نتجت عن استقراء عقلاني للواقع يرصد الأخطار بواقعية ودقة، وهذه اقتصرت في مرحلة ما على التهديد الخارجي والخطر الفلسطيني الداخلي ولكننا الآن نشهد تعظيماً لخطر الانقسام الداخلي وهو ما اشار اليه بدقة الكاتب البريطاني جوناثان فريدلاند بوصف نتنياهو بأنه يشكل خطراً وجودياً على إسرائيل ومثله البروفسور الإسرائيلي دانيال كاهتمان أن ما يجري في إسرائيل الآن هو الأسوأ منذ العام 1948، وبهذا المعنى صرح نفتالي بينت (أن اسرائيل تقف أمام اختبار حقيقي وتشهد حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار وتواجه مفترق طرق تاريخي).
لاشك اذاً أن المخاوف حقيقية على ان اسرائيل في خطر وجودي يتهددها، ولكن هل هذا مبرر للاحتفال من قبل اعدائها؟ اعتقد انه من المبكر جداً فلا يمكن إخراج أقوال كل هؤلاء عن الخوف المقرون بالتحذير من مغبة الوصول الى هذه النتائج خشية على الدولة لا إقراراً بزوالها، ومع ذلك لا يمكن الانكار ابداً أن صمود الفلسطينيين وثباتهم كان سبباً رئيسياً في الوصول الى هذا الكم من الإحباط والخوف، فبسببهم وحدهم تراجعت ثقة الجمهور الإسرائيلي بالمؤسسة العسكرية ولأول مرة، وبسببهم ايضاً أصبحت الوحدات التكنولوجية هي المكان المفضل للمجندين مما يعني أن استعدادهم للحرب والقتال والمجازفة آخذ في التراجع وهذه هي الأسس التي قامت عليها إسرائيل، فهذه الأسس آخذة في الانهيار بفضل ذلك الصمود ولكن هذا يحتاج الى المزيد من الوقت والصبر والصمود، اذاً الـ75 ليس مجرد رقم عند هؤلاء انها رحلة محملة بكل ما يمكن وصفه من الأمل والنصر والخوف بالنسبة لطرف والهزيمة واليأس والأمل بالنسبة للطرف الآخر.