لم تحل الاتصالات الروسية الغربية المكثَّفة لاحتواء تداعيات انضمام القرم للاتحاد الروسي والتزايد المستمر في مؤشرات تصاعد الأزمة الأوكرانية المفتوحة.
وإذ بدا الغرب فاقد الحيلة أقرب إلى التسليم بالأمر الواقع في القرم، وتتصرف روسيا حيال المسألة باعتبارها من الماضي، فإن جل ما يقلق الغرب ويهجس به الآن هو منصب على أحداث مناطق الشرق والجنوب الأوكرانيين، التي تبدو وكأنما هي سائرة حثيثًا على خطى القرم.
وفي حين يقلل الروس من استخدامهم لمصطلحهم المأثور “شركائنا” لصالح اتهام الناتو بأنه “لم يتخل عن نمط تفكير الحرب الباردة”، يهدد الأميركان بـ”إعادة نظر” في التموضع العسكري الأميركي في أوروبا… ها هي الأحداث في تسارع وبداياتها تشي بالسيناريو القرمي عينه.
في دونيتسك عاصمة مقاطعة دونباس تعلن مجموعات الدفاع الذاتي عن نيتها السيطرة على الطرق والمطار ومحطات القطارات، ليعقبها الدعوة لتشكيل جيش شعبي، وهذه وتلك بعد أن أعلن في المدينة عن تشكيل حكومة مؤقتة “لجمهورية دونباس”، والسيطرة على مبنى الإدارة المحلية، والدعوة لإجراء استفتاء عام في غضون شهر حول ضم المنطقة للاتحاد الروسي. ومن جهتها أعلنت وزارة الداخلية الأوكرانية إرسالها لوحدات من القوات الخاصة لثلاث من المناطق المضطربة في الشرق الأوكراني هي دونيتسك وخاركوف ولوجانسك، الأمر الذي حدا الخارجية الروسية للتعبير عن قلقها “لإرسال قوات إضافية لقمع الاحتجاجات”، وخصوصًا وأن من بين المرسلين 150 خبيرًا أميركيًّا من منظمة “جريسون” العسكرية الخاصة للمشاركة في هذه المهمة، قالت إنهم يرتدون الزي الخاص بالقوات الأوكرانية الخاصة.
وفي إشارة لافتة ولعلها تحمل الكثير من المغزى دعت الخارجية الروسية كييف “للتوقف الفوري عن أية تحضيرات عسكرية تؤدي إلى إشعال الحرب الأهلية”، محذرة لها في نفس الوقت من خرق اتفاقيات حذر انتشار أسلحة الدمار الشامل في إشارة إلى تقارير إعلامية روسية تفيد بأن مصنع “يوجماش” الأوكراني يجري مباحثات مع دول أجنبية، وخاصة مع تركيا” لبيع أسرار أقوى صاروخ باليستي روسي في العالم هو “آرـ36 م2 فويفودا” والذي يطلق عليه في حلف الناتو لقب الشيطان.
… والآن، وقد سجَّل الروس نقطة لصالحهم في مكاسرة الإرادتين الروسية والناتوية الجارية في أوكرانيا، وظهر جليًّا للغرب حجم العناد ومدى العزم الذي تبديه البوتينية الروسية خلال الأزمة، والتي كشفت بدورها عن حالة التراجع الأميركية ومدى التهلهل في ثوب الإرادة الأوروبية، الذي لا يبدو أن رقعة متباينة المصالح تتفق حول مستويات ردها، حتى في حدود العقوبات، على الحزم والتحدي الروسيين.
… هذه التي لا يستر مواقفها المتباينة إلا غلالة مستوجبات التضامن في مواجهة الأزمات لا أكثر، في حين يفضحها ويزيدها اهتراءً تباين حجم ومدى عمق المصالح الاقتصادية المشتركة لدول المنظومة الأوروبية مع الروس، الذين يبدون في هذه الأيام براعة في استخدام ما لديهم من أوراق وهي ليست بالقليلة… الآن.
ما الذي بوسع الغرب فعله، أكثر من تحميل كيري لـ”عملاء روسيا” المسؤولية الكاملة للاضطرابات الانفصالية الجارية في الشرق الأوكراني، وولولته المحذرة من أن ذلك من شأنه أن “يخلق ذريعة لتدخُّل عسكري (روسي) مثلما رأينا في القرم”؟! ما الذي بوسعه أن يضيفه للصراخ، وإرسال خبراء “جريسون”، أو مرتزقة “بلاك ووتر”، غير تحذيرات جراسموسن، أمين عام حلف الناتو، لروسيا من “عواقب وخيمة” على مستوى علاقاتها بالناتو، ووعيدها بعزلة دولية؟!
إن أقل ما يمكن للروس فعله في دفاعهم الحازم والمستميت عن أسوارهم المنتهكة من قبل الجموح الناتوي التوسعي في القارة الشمطاء هو مجرَّد إعطاء إشارة البدء بتفكيك أوكرانيا توطئة لازدراد شرقها وجنوبها قطعة قطعة وفق المثال القرمي الذي بات الآن، كما قلنا، من الماضي. وهم لن يقنعهم بعدم اللجوء مضطرين لمثل هذا الخيار، الذي قد يعد كل ما يجري الآن في الشرق الأوكراني ليس أكثر من مجرد تلويح به، سوى فدرلة أوكرانيا، وضمان حيادها التام، الأمر الذي تحدث عنه بعض الأوروبيين، وأشار إليه لافروف في مقال نشر له مؤخرًا في صحيفة “الجارديان” البريطانية، قال فيه إن بلاده مستعدة لأن تقوم بكل ما يلزم لاستعادة الاستقرار في أوكرانيا “مقتنعةً بأن ذلك بحاجة إلى: إصلاحات دستورية حقيقية تضمن مطالب المناطق، وضمانات قانونية تؤكد عدم انحياز أوكرانيا، وتدابير عاجلة لوقف أدوار جماعات قومية متطرفة مسلحة”.
في حين لفت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الملوِّح بورقة الغاز نظر الأوكران إلى أن الغرب وإن اعترف بحكومتهم إلا أنه لم يجد عليهم بدولار واحد، لكن الروس لا يزالون يوالون دعمهم للاقتصاد الأوكراني بمليارات الدولارات!
…قلنا في مقالات سابقة إن الغرب، وإن همه إنهاك روسيا في الأزمة الأوكرانية، فهو قطعًا لن يذهب للحرب من أجل سواد عيون كييف، وإن كل ما سيلجأ إليه هو الصراخ والعقوبات، أو هذه التي لا يجمع الأوروبيون على مداها فوهنت وهانت ورقتها، والتي يعتبرها الروس سلاحًا مرتدًّا على أصحابه… بل، وكما أشرنا، هناك من الأوروبيين من هو ليس ببعيد عن حل لافروف لأزمة أوكرانيا، كبديل وحيد لتفكيكها.
وعليه، وفي نهاية المطاف، ورغم كل التطورات في الشرق الأوكراني وما يرافقها من الصراخ الغربي، هل يكون هذا هو الحل؟؟
عبد اللطيف مهنا/شرق أوكرانيا… سيناريو القرم أم حل لافروف؟!
16
المقالة السابقة