السفير الدكتور رجب السقيري
في مستهل الأسبوع الحالي انتهت في الجمعية العامة للأمم المتحدة الفترة المخصصه للمناقشة العامة والتي استمعت خلالها الجمعية على مدى ستة أيام إلى رؤساء وفود من دول العالم كان بينهم رؤساء دول ورؤساء حكومات إضافة إلى وزراء خارجية وسفراء ومسؤولين حكوميين رفيعي المستوى . وكما هو الحال كل سنة ، باستثناء سنتي الجائحة الماضيتين . كان من بين المتحدثين رؤساء وفود جميع الدول العربية بما فيهم رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الذي ألقى خطابًا مطولاً كان أبرز ما فيه (فيما يتعلق بالأمم المتحدة) أن المنظمة الدولية “بهيئاتها المختلفة قد أصدرت مئات القرارات (حول القضية الفلسطينية) ومن بينها 750 قراراً من الجمعية العامة و97 قراراً من مجلس الأمن و96 قراراً من مجلس حقوق الإنسان” ، وأضاف أبو مازن معلومةً يعرفها كل فلسطيني وكل عربي ، بل وربما كل متابع للشأن الدولي ، وهي أن أياً من هذه القرارات لم يتم تنفيذه ، كما قال أن فلسطين (كدولة غير عضو في الأمم المتحدة لها صفة مراقب) في صدد تقديم طلب للأمين العام لتنفيذ قرار الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947 الذي ينص على تقسيم فلسطين بين العرب واليهود ، كما أنها بصدد تقديم طلب لمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة شأنها شأن الأعضاء ال 193 الحاليين في المنظمة الدولية .
سنرجيء الحديث عن القرار 181 إلى مقالٍ قادم نظراً للتعقيدات المحيطة به ونقتصر في هذا المقال على بحث موضوعٍ واحد هو طلب العضوية الكاملة لدولة فلسطين لنرى ما إذا كان ممكناً وكيف يتم ذلك ، وما قيمة هذه العضوية الكاملة إذا أصبحت فعلاً متاحة ، رغم معارضة إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة ، الدولة الأعظم في عالمنا المعاصر والأكبر تأثيراً في المنظمة الدولية ؟
الإجراءات حسب ميثاق الأمم المتحدة
استناداً إلى ميثاق الأمم المتحدة فإن أية دولة “محبة للسلام” وتتعهد بالإلتزام بالميثاق وترغب بأن تصبح عضوًا في الأمم المتحدة يمكنها أن تقدم طلباً إلى الأمين العام الذي يحيله بدوره إلى مجلس الأمن لاتخاذ قرار ورفع توصية ، في حال الموافقة ، إلى الجمعية العامة بقبول الطلب وبعد قرار الجمعية العامة بالموافقة على توصية مجلس الأمن ، سواءً بتوافق الآراء أو بالتصويت ، تصبح الدولة المعنية عضواً كامل العضوية تتمتع بحقوق ويترتب عليها التزامات مساوية لحقوق والتزامات الدول الأخرى الأعضاء في المنظمة الدولية .
هذا من الناحية النظرية ، ولكن في ظل ميثاق الأمم المتحدة الحالي القائم على أسس وهيكلية النظام الدولي الذي جاء نتيجة لما أسفرت عنه الحرب العالمية الثانية من توازنات في القوى ، تتيح لأيٍ من الأعضاء الخمسة الدائمين (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين) إجهاض أي مشروع قرار يعرض على المجلس ولا يتناسب مع مصالح ذلك العضو فإن طلب دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة محفوفٌ بالمخاطر وقد يواجه مصيره المحتوم لأنه لا يحظى بموافقة الولايات المتحدة ، الراعية والحامية لدولة الاحتلال التي لا ترى من مصلحتها أن تصبح فلسطين عضوًا كامل العضوية . وعليه سيسقط ذلك الطلب بضربة الفيتو الأمريكية القاضية وينضم إلى أقرانه من مئات مشاريع القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية والتي وُئدت في مهدها ، فضلاً عن مئاتٍ أخرى من القرارات التي اعتمدها مجلس الأمن حول القضية نفسها ولكن وُضعت على الرف ولم تحظَ بأية فرصة للتنفيذ . بصورةٍ أوضح ، فقد أعلنت الولايات المتحدة على الملأ وعلى لسان الرئيس جو بايدن نفسه ، قبل افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة أعمال دورتها السابعة والسبعين الحالية ، أنها ستستخدم عصا “الفيتو” الغليظة لمنع فلسطين من الحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة .
هل يمكن تجاوز مجلس الأمن ؟
ثمة طريقة واحدة يمكن من خلالها تجاوز عقبة مجلس الأمن الكأداء ، وهي اللجوء إلى ما عُرف عبر العقود السبعة الماضية بقرار “متحدون من أجل السلام” Uniting for Peace Resolution والذي استخدم في حالات قليلة نادرة عندما كان مجلس الأمن يعجز عن اعتماد مشروع قرارٍ يتعلق بالسلام والأمن الدوليين فيلجأ لإحالة الأمر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للنظر فيه . طبعاً غالباً ما يكون عجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرارٍ في مسألةٍ ما ناجماً عن عدم توافق الآراء بين الأعضاء ، خاصةً الأعضاء الدائمين في المجلس ، أو عندما يكون أحد الأعضاء الدائمين أو أحد حلفائه المقربين متورطٌ في النزاع مدار البحث ، خاصةً إذا ما أعرب هذا العضو خلال جلسة المشاورات التي تسبق عادةً الجلسة الرسمية للمجلس أنه يعارض مشروع القرار المطروح ، أو أفصح أكثر وهدد باستخدام الفيتو إذا ما عرض مشروع القرار على التصويت لإقراره في الجلسة الرسمية للمجلس .
أبرز الأمثلة على تجاوز مجلس الأمن
ولعل أوضح مثال على هذه الحالة هو ما حدث على أثر العدوان الثلاثي على مصر والذي قامت به عام 1956 كلٌ من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل . إذ كان من الواضح أن بريطانيا وفرنسا ستقومان باستخدام الفيتو لإجهاض أي قرار يدين ذلك العدوان الغاشم ويدعو الدول المعتدية إلى الانسحاب الفوري من الأراضي المصرية . وعليه تمت إحالة الأمر إلى الجمعية العامة التي اتخذت قراراً بسحب القوات المعتدية إضافة إلى تشكيل قوة الطواريء الدولية United Nations Emergency Force وهي أول قوة حفظ سلام دولية يتم تشكيلها في تاريخ الأمم المتحدة . ولكن ما الذي جعل واشنطن في حالة العدوان الثلاثي (أو ما يطلق عليه الغرب أزمة السويس) تسمح بتمرير قرار ضد رغبة حليفتيها الأوروبيتين ، بريطانيا وفرنسا، وضد رغبة حليفتها الأقرب إلى قلبها ووجدانها ، إسرائيل ؟ الجواب يتمثل في سببين رئيسين هما : أولاً التهديد الذي وجهه الاتحاد السوفيتي إلى الدول المعتدية ، وثانياً أن تلك الدول قامت بعدوانها على مصر دون التشاور مع الولايات المتحدة زعيمة العالم الغربي التي كانت منخرطة بقوة في خضم الحرب الباردة مع العملاق الآخر ، الاتحاد السوفيتي ، في ظل نظامٍ ثنائي القطبية يتطلب مزيداً من الحيطة والحذر ، إذ كان سبب عتبها الأكبر على بريطانيا وفرنسا ، حليفتيها في الصراع القائم بين المعسكرين الشرقي والغربي ، أن الإخلال بالتوازنات القائمة في حينه كان يمكن أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه بين العملاقين .
دور الدبلوماسية المتعددة multilateral diplomacy
قد يقول قائل ولكن نقل طلب عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة يحتاج إلى قرار من المجلس وبالتالي يمكن لأمريكا استخدام حق الفيتو وتعطيل القرار وإجهاض المحاولة حمايةً للمصالح الإسرائيلية وبالتالي نصل إلى نتيجة فاشلة “وكأنك يا أبو زيد ما غزيت” كما يقول المثل الشعبي . والجواب ليس الأمر هكذا ، إذ أن قرار المجلس بإحالة الأمر إلى الجمعية العامة يعتبر قراراً إجرائياً (procedural) وليس من حق الأعضاء الدائمين استخدام الفيتو حول قرارٍ إجرائي ، وأن كل ما يحتاجه مثل هذا القرار ، إذا جرى التصويت عليه ، تسعة أصوات إيجابية من مجموع الأصوات البالغ خمسة عشر صوتًا (خمسة منهم دائمون وعشرة ينتخبون لمدة سنتين) . وعليه يترتب على الدبلوماسية الفلسطينية بالمشاركة مع “ما تيسر” من الدبلوماسية العربية وبالتعاون مع جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي وحركة عدم الانحياز ومجموعة ال 77 بذل قصارى جهدها في التواصل مع أعضاء مجلس الأمن للحصول على الأصوات التسعة المطلوبة ، علماً بأن من ضمن أعضاء المجلس غير الدائمين يوجد دائماً دولة عربية يمكن أن تساعد ما أمكن لكسب تأييد بعض الأعضاء الآخرين للقرار الإجرائي المطلوب ، وعلماً كذلك بأن تشكيلة المجلس الحالية من الأعضاء غير الدائمين (ألبانيا والبرازيل والغابون وغانا والهند وإيرلندا وكينيا والمكسيك والنرويج ودولة الإمارات العربية المتحدة) تتكون من دول بعضها لها علاقات دبلوماسية كاملة مع فلسطين وبعضها الآخر يستضيف مكتباً تمثيلياً فلسطينياً على مستوى أقل من سفارة . وعليه فقد يكون بإمكان الدبلوماسية الفلسطينية والعربية الوصول إلى نتيجة إيجابية في مجلس الأمن عن طريق التواصل مع عواصم الدول العشر المذكورة ومع بعثاتها في نيويورك . وعلى فرض أن كلاً من أمريكا وبريطانيا وفرنسا ستصوت ضد القرار فالمتوقع غالباً أن تصوت روسيا والصين لصالح فلسطين إضافة إلى إيرلندا (التي أوصت غرفتا البرلمان فيها بالاعتراف الكامل بدولة فلسطين ، لكن الحكومة ما زالت ملتزمة بموقف الاتحاد الأوروبي). يبقى المطلوب ستة أصوات من التسعة الباقية وهو أمرٌ يبدو ممكناً .
ضغوط الطرف الآخر
إذا تمت إحالة القرار إلى الجمعية العامة قد يبدو الأمر سهلاً ، خاصةً وأن حوالي 140 دولة من أعضاء الأمم المتحدة إما تعترف بدولة فلسطين اعترافاً كاملاً أو ترتبط معها بعلاقات دبلوماسية بمستويات متفاوتة ، إلا أن الأمر ليس مضموناً تماماً حيث أن الطرف الآخر إسرائيل والولايات المتحدة لن يقفا مكتوفي الأيدي ولن يتركا الحبل على الغارب ، فصحيح أن الأصوات متساوية في الجمعية العامة وحق النقض (الفيتو) لا مكان له البته ، إلا أن قدرة الولايات المتحدة على التأثير على الدول الأعضاء قدرة تكاد تكون غير محدودة لا سيما إذا استخدمت أدوات الضغط الاقتصادي خاصةً في الظروف الحالية التي تعاني فيها معظم الدول النامية من عجز في موازناتها وتراكم في ديونها الخارجية وعجز عن توفير الغذاء والدواء لشعوبها . ولا ننسى أيضاً قدرات إسرائيل على شراء ذمم الدول الفقيرة عن طريق تزويدها تارةً بالخبرات الزراعية والتكنولوجية الحديثة وطوراً بالأسلحة والمساعدات الأمنية الهادفة للقضاء على حركات المعارضة للأنظمة الحاكمة الهشة في تلك الدول .
ما قيمة العضوية الكاملة
قد لا تغير العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة كثيراً من الواقع المؤلم الذي يعيشه الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ، بل قد يحفز هذا التغيير تل أبيب على اتخاذ خطوات أحادية خطيرة ردأً على خطوة الجانب الفلسطيني التي تعتبرها كلٌ من إسرائيل وأمريكا خطوةً أحادية ، فقد تفرض إسرائيل على الشعب الفلسطيني مزيدًا من القمع والاضطهاد والتضييق ومزيداً من الاستيطان وقضم الأراضي وهدم البيوت والاعتقال والقتل الميداني بدمٍ بارد .
ولكن على المستويين السياسي والدبلوماسي سيشكل حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة نقلة نوعية قد تساعد في نهاية المطاف على إحراز تقدم نحو حلٍ ما ، ولو أن أي حل للقضية الفلسطينية في ظل الخلل القائم في توازن القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية بين الجانبين وفي ظل الدعم اللامحدود الذي تتلقاه إسرائيل من حلفائها وبالذات من الدولة العملاقة التي تقود النظام العالمي أحادي القطبية ، وكذلك في ظل الانقسام الفلسطيني وغياب القيادات التاريخية الفلسطينية وتزعزع ، أو فقدان ، الثقة بالقيادات الفلسطينية الحالية ، إضافة إلى تفسخ النظام العربي الإقليمي وانكفائه وتراجع الدعم السياسي والدبلوماسي العربي للقضية الفلسطينية وهرولة بعض الدول العربية إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل ، أي حل في ظل هذه المعطيات لن يلبي طموحات أغلبية الشعب الفلسطيني خاصةً بعد أن فقد هذا الشعب ثقته بالحلول السلمية وأصبح على قناعة تامة بأن إسرائيل لا تريد السلام .
ولكن على الرغم من ذلك فإن حصول فلسطين على العضوية الكاملة للأمم المتحدة سيدعم بقوة الخطاب الفلسطيني الموجه للعالم ويغير من طبيعة القضية ، إذ تصبح قضية احتلال دولة لدولة أخرى ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة ومعترف بها من الغالبية من دول العالم مما سيجعل العديد من دول العالم التي كانت مترددة في الاعتراف بفلسطين سيجعلها تتقاطر الواحدة تلو الأخرى باتجاه الاعتراف بالدولة الوليدة وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها بالقدر الذي يسمح به واقع الاحتلال البغيض .
إضافة إلى ذلك سيكون لوفد فلسطين مقعد في الأمم المتحدة مساوٍ في قيمته ووزنه لمقاعد الدول الأخرى وسينضم الوفد بكامل أهليته إلى المجموعات الإقليمية بل وقد يترأس بعض هذه المجموعات مما يرفع من قيمة الدور الذي تلعبه فلسطين بحيث تصبح مؤثرة في القرارات الصادرة عن المنظومة الدولية وسيكون من حق الوفد الترشح لرئاسة اللجان الرئيسة التابعة للجمعية العامة كلجنة نزع السلاح واللجنة الاقتصادية ولجنة حقوق الإنسان واللجنتين المالية والقانونية بل قد نشهد اليوم الذي تترشح فيه فلسطين للعضوية غير الدائمة لمجلس الأمن وتصبح عضواً فاعلاً فيه لمدة سنتين يتسنى لها خلالهما تولي الرئاسة الشهرية للمجلس التي يتداولها الأعضاء بينهم . ليست هذه أحلام يقظة بل هي نتيجة واقعية للتغييرات الهائلة في الموقع السياسي والدبلوماسي على خارطة العالم التي يمكن أن تحدث إذا تغلبت فلسطين على الصعوبات الجمة التي تعترض طريقها نحو الحصول على العضوية الدائمة للأمم المتحدة ، ولكن هيهات هيهات هيهات .
سفير أردني سابق لدى الأمم المتحدة/جنيف
وباحث في الشؤون الدولية