حين تتداخل الحسابات وتتشابك المعطيات، فلا يعني ذلك بالضرورة أن يؤدي إلى التقاء الجميع في منتصف الطريق، بل ربما إلى مزيد من التداخل والتعقيد فينتج عنه تطاير رؤوس والإطاحة بقيادات. والخلاف الذي حصل بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض على خلفية رفض الأول استقالة نبيل قسيس وزير المالية وقبول الثاني الاستقالة، بقدر ما هو خلاف شخصي بين الاثنين بقدر ما هو تعبير عن مآخذ أخذها عباس على فياض بسبب تعثره في معالجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها أهل الضفة الغربية الذين خرجوا في مظاهرات منددة بسياسات حكومة فياض والمطالبة باستقالته.
وأيًّا كان مآل سلام فياض “الاستقالة” أو “الإقالة”، فإنه يعكس حالة الطلاق البائن بينه وبين عباس من ناحية، وبينه وبين الفلسطينيين الذين نهشتهم الضائقة المالية وعجزوا عن الوفاء باحتياجاتهم المعيشية اليومية، وما زاد الفرقة بين رئيس الحكومة وبين الرئيس عباس والفلسطينيين هو التدخل الأميركي على خط الاستقالة، ومطالبة جون كيري وزير الخارجية الأميركي الرئيس الفلسطيني بمصالحة فياض وتسوية الخلاف بينهما، الأمر الذي فسره الفلسطينيون بأن فياض هو خيار أميركي أو رجل الولايات المتحدة الذي ترنو إليه في تحقيق ما عجز عنه عرفات وعباس، وهو ما يعد تدخلًا أميركيًّا سافرًا في الشأن الداخلي الفلسطيني يجب أن يجابه ويحبط في مهده قبل أن يتضخم ويتمدد في كامل الجسد الفلسطيني.
ما أشبه اليوم بالبارحة، فالفلسطينيون أمام مشهد جديد، حيث تُكرِّرُ واشنطن السيناريو ذاته الذي استخدمته ضد الرئيس الراحل ياسر عرفات، وذلك حين رفض الانصياع للإملاءات الصهيو ـ أميركية، فعمدت إلى تنحيته بتقليص صلاحياته وإجبار عرفات والمؤسسات التشريعية الفلسطينية على استحداث منصب رئيس وزراء لرفيق النضال محمود عباس، والكل يتذكر ذلك المؤتمر الصحفي الشهير على الهواء الطلق في الأردن والذي عقده آنذاك الرئيس الأميركي جورج بوش “الصغير” لإعلان المنصب الفلسطيني الجديد ومنحه عباس الذي سارت أغلب التكهنات إلى أن الأخير سيكون رجل أميركا القادر على تقديم التنازلات المطلوبة لصالح كيان الاحتلال الصهيوني الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة. ويبدو أن إدارة الرئيس باراك أوباما بدأت تعد هي الأخرى المكيدة ذاتها ضد كل من عباس وسلام فياض، ناظرة إلى فياض على أنه البديل القادر على الوفاء بما خذلهم فيه عباس، إلا أن “استقالة” فياض أو “إقالته” كانت أسرع وأطاحت بما تضمره الولايات المتحدة ضد القضية الفلسطينية.
مشكلة السياسة الأميركية أنها لا تريد أن تستوعب التاريخ الفلسطيني بجميع فصول نضالاته ومواقف قياداته، بأنه من غير الوارد وليس في وسع فلسطيني أيًّا كان منصبه ووضعه أن يرضخ للابتزاز الصهيو ـ أميركي أولًا، وأن يقدم تنازلات تتعلق بقضايا الحل النهائي أو ما تعرف بالثوابت الفلسطينية، فهذه غير قابلة للمساومة أو الابتزاز، والغريب في السياسة الأميركية أنها تتعامل مع الصراع العربي ـ الصهيوني من زاوية أن “من لم يستطع عض الحمار فليعض البردعة”، وبدل أن تمارس أي ضغط حقيقي على حليفها الكيان الصهيوني المحتل لوقف الاستيطان وعمليات التهويد، ومن ثم الدخول في مفاوضات جدية تعطي كل ذي حق حقه، وتؤسس لمناخ واسع من الحرية والاستقرار والعيش الكريم، تعمل ـ مدفوعة بتلبية دلال حليفها الصهيوني ـ على إيجاد كيانات أو رموز فلسطينية تكون مستعدة لتقديم الدور المراد منها، ولا تريد أن تتفهم طبيعة الوضع الفلسطيني بأن ساحاته لا تقبل المراهنات أو المغامرات، ولن يكون بمقدور أي قيادة فلسطينية التفريط في شيء من الثوابت الوطنية. وربما أن الولايات المتحدة تدرك هذه الحقيقة، وإنما ما تمارسه ضد القضية الفلسطينية ومحاولة ابتزاز الفلسطينيين هو من قبيل ملء الفراغ والتلهي بإدارة الصراع، وذلك ليقينها بأن إنهاء الصراع العربي ـ الصهيوني باتفاقية سلام ناجزة سيقضي على فرص نفوذها في المنطقة، وربما يهدد مصالحها لاحقًا التي تتوهم أن حليفها الاستراتيجي “كيان الاحتلال الصهيوني” هو مقدمة الرمح في حفظ هذه المصالح، مع أن الفلسطينيين ومن ورائهم العرب قدموا تنازلات مؤلمة، وليس أدل على ذلك من مبادرة السلام العربية التي يجري تمييعها وقبرها، حيث يرى الصهاينة المحتلون وحلفاؤهم من الغرب وبعض العرب أن ما يسمى “الربيع العربي” قد أطاح بكل ما كان كيان الاحتلال الصهيوني يتحسب له ويعمل له ألف حساب، إذ إن “ثوار الربيع” باتوا حلفاء لكيان الاحتلال الصهيوني، ومتلقين لمساعداته العسكرية والطبية. إن ما يجري من حديث أميركي عن تحسين ودعم للاقتصاد الفلسطيني ليس بجديد، فهو تنفيذ لما أوصى به المنظِّر الخبيث توني بلير الموفد الخاص للجنة الرباعية الدولية، وذلك في إطار مخطط قتل الحلم الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأرض الفلسطينية، في قفز واضح على المشكلة الحقيقية وهي الاحتلال والاستيطان.
خميس بن حبيب التوبي
khamisaltobi@yahoo.com