ستكشف الأيام المقبلة مدى أهمية القمة التي عقدت في روضة خريم بين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس باراك أوباما. هل تكون لقاء تاريخياً ومفصلياً في العلاقة الاستراتيجية بين السعودية والولايات المتحدة، كما كانت حال القمة الأولى بين المؤسس الملك عبد العزيز والرئيس فرانكلين روزفلت في العام 1945، أو القمة التي عقدت بين الملك فهد والرئيس جورج بوش العام 1990 وهيأت لحرب تحرير الكويت؟ لم تكن الأولى بين الزعيمين اللذين التقيا في العام 2009، ولم تكن الأولى بين قادة البلدين منذ الحرب العالمية الثانية، هي إذاً لم تكن تقليدية، لأنها جاءت في ظروف دقيقة ومصيرية في الشرق الأوسط، وجاءت فيما غيوم كثيرة تشوب العلاقات بين الرياض وواشنطن، ولم يستطع تبديدها مسؤولون كثر تبادلوا زيارات ولقاءات.
من المبكر بالطبع رصد نتائج القمة في كل الملفات التي تناولها البحث. وهي باتت معروفة وتشمل مساحة واسعة من الإقليم، من مصر إلى فلسطين ولبنان وسورية العراق، ومن اليمن إلى البحرين وإيران. لم يكن الفتور الذي ساد العلاقات وليد أحداث بعينها بقدر ما كان تراكماً أفضت إليه أحداث وتطورات قديمة وحديثة. ولا مبالغة في رد البدايات إلى قيام الثورة الإسلامية الإيرانية وتداعيات الحروب الثلاث التي شهدها الخليج. وإلى تصدع للنظام الدولي بفعل انهيار الكتلة الشرقية وما أفضى إليه من تغييرات جوهرية طرأت على العلاقات الدولية، ثم سعي الولايات المتحدة إلى بسط سلطانها على العالم لبناء نظام جديد ذي قطب واحد، متوسلة العولمة والهيمنة على منظمات الأمم المتحدة سلاحاً. ثم كان التحول الكبير إثر «غزوتي نيويورك وواشنطن» وما خلفتاه من توتر بين الغرب والعالم الإسلامي وضع المملكة العربية السعودية خصوصاً تحت المجهر للأسباب المعروفة. وجاء «الربيع العربي» ليوجه ضربة قاضية لكل ما كان قائماً من سياسات واستراتيجيات دولية وإقليمية ولم تنته فصوله وتداعياته بعد.
الخلاصات التي أفضت إليها كل هذه التحولات هي ما عكر صفو العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة، فكان لا بد من هذه القمة التاريخية، سواء أعادت ربط ما انفصم أو بددت القليل من نقاط الخلاف بين الطرفين. ومن دون العودة إلى التاريخ القديم، تكفي العقود الثلاثة الأخيرة لتبيان مواقع الخلل الذي أصاب العلاقات: مع انطلاق الثورة الإيرانية لم تتردد المملكة وشريكاتها في التصدي لمحاولات «تصدير الثورة». وكان قيام مجلس التعاون مع اندلاع حرب الخليج الأولى. ومعروف الدور الداعم لبغداد سواء من أميركا والغرب عموماً، أو من معظم دول المجلس. ولا حاجة إلى استعادة صفحات الشراكة بين هذه الأطراف في التصدي للغزو السوفياتي لأفغانستان وما كان لهذا التصدي من أثر في انسحاب القوات السوفياتية من كابول. وهو أمر كان بين أحد العوامل التي عجلت في انهيار الكتلة الشرقية. وكانت بدايات التحول إثر أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وما تلاها من خروج الرئيس جورج بوش الابن في حروبه الاستباقية، وما رافق ذلك من حملات على المملكة والإسلام عموماً.
ولا جدال في الفشل الذي آلت إليه هاتان الحربان. وكان عنوان حملة الرئيس أوباما في السباق إلى البيت الأبيض وعده الأميركيين بالخروج من العراق وأفغانستان بعد التكاليف الباهظة في الأرواح والاقتصاد. يكفي أنه قال أخيراً إن لقدرات بلاده حدوداً إثر هذه المغامرات المكلفة التي استنفدتها. صحيح أن الولايات المتحدة تتراجع قدراتها، لكن ذلك لا يعني أنها مرشحة للانهيار التام كما حدث للاتحاد السوفياتي، ولا يعني أن بإمكان فلاديمير بوتين استعادة ما كان للكرملين أيام الحرب الباردة. واضح تماماً أن هذه المرحلة الانتقالية في السياسة الأميركية أتاحت لقوى دولية أو إقليمية التحرك لملء الفراغ الذي خلفه انكفاء أميركا عن المنطقة وتحويل هدف استراتيجيتها الأول إلى المحيط الهادئ. وما ساعد هذه القوى غياب القطبين الكبيرين وتوازن القوى الدقيق الذي رسخه صراع النفوذ بينهما. وواضح هنا تقدم الصين وصعود الهند والبرازيل وغيرهما. مثلما هو واضح في المقابل الخلل الذي أصاب النظام في أقاليم عدة في أفريقيا وآسيا. وهو ما لم تكن عليه الحال أيام الحرب الباردة التي حالت دون إعادة النظر في الحدود التي قامت بعد الحربين العالميتين.
ولا يشذ الشرق الأوسط عن القاعدة، فقد أصاب ميزان القوى فيه خلل مرده إلى تلاشي المظلة السوفياتية أولاً عن عدد من الدول، ثم انكفاء أميركا ثانياً بعد فشلها العسكري في حربين مدمرتين، رافقهما فشل سياسي في إقامة نظامين ديموقراطيين في كابول وبغداد، نموذجين يحتذى بهما في الطريق إلى بناء «الشرق الأوسط الجديد». من هنا عربدة إسرائيلية بلا رادع تكاد تبتلع ما بقي من أرض فلسطين، ومن هنا تمدد إيران التي باتت تنظر إليها واشنطن حاجة لترتيب انسحاب آمن من أفغانستان، وحاجة لتوفير الاستقرار في منطقة نزلت من رأس سلم الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي أعلنها أوباما قبل أقل من سنتين، وهو ما مكّن الجمهورية الإسلامية من بسط يدها على سورية ولبنان بعد العراق.
وعلى غرار هذا التمدد الإيراني في المشرق العربي، لا تخفي صنعاء اتهاماتها طهران بدعم الحوثيين بكل ما يحتاجون، حتى باتوا على أبواب العاصمة. وعزز مخاوف اليمنيين رفض الحوثيين أخيراً خريطة الأقاليم في الدولة الاتحادية التي أقرها مؤتمر الحوار الوطني، بعدما فشلوا في إطاحة أو عرقلة هذا المؤتمر الذي رعته الأمم المتحدة ومجلس التعاون. وتحذر دوائر رسمية في اليمن من رغبتهم في التمدد نحو الجوف حيث بعض الثروة النفطية، وغرباً نحو البحر، في محاولة لقيام دويلة ترعاها الجمهورية الإسلامية، فتكون تالياً قادرة على التحكم بباب المندب… بعد وقوفها مدججة على مضيق هرمز! فليبقَ لأميركا وأوروبا بلاد النفط وحقوله، ولتبقَ لها مفاتيح بواباته وطرق إمداده وناقلاته!
ليس قليلاً أن تتمدد «الجمهورية الإسلامية» على طول هذه المساحة، من السودان وسيناء وغزة إلى اليمن صعوداً إلى العراق وسورية ولبنان. تحقق لها «تصدير الثورة» باستراتيجية مختلفة، ساعدها انكفاء أميركا عن المنطقة، وتداعي النظام العربي وما خلف «ربيعه» من تفكك في بنى المجتمعات العربية وصراع مكوناتها المختلفة، طوائف ومذاهب وإتنيات، بل لعل هذا التمدد معززاً بترسانة من الأسلحة التقليدية ومنظومة صواريخ قادرة على تغطية كل الشرق الأوسط، جعل منها «إمبراطورية» إقليمية لا يمكن تجاوزها في أي بناء لنظام إقليمي، سياسي أو عسكري أمني أو اقتصادي، ولعل هذا المعطى أكثر خطورة من امتلاكها قنبلة نووية لا يمكنها استخدامها، بل يمكن جيرانها الخليجيين مجاراتها بسباق تسلح يحقق لهم توازناً في القدرة على الردع.
بعد هذا، هل يكفي أن يطمئن الرئيس أوباما حلفاءه في المنطقة، وعلى رأسهم السعودية، إلى حرص على تسوية «جيدة» للملف النووي الإيراني، وعلى أمن المنطقة؟ اعتمد سياسة اليد الممدودة مع طهران وواظب من أيام الرئيس أحمدي نجاد ولا يزال، وهو لن يتراجع عن تحقيق إنجاز في الملف النووي الإيراني. وثمة دوائر معنية بالملف تتحدث عن تقدم كبير سيعوض بالتأكيد بعض فشل وعوده بتحقيق تسوية للصراع العربي- الإسرائيلي، إذ لا شيء في الأفق حتى الآن يشي بأن جهود وزير خارجيته جون كيري ستثمر في تحقيق اتفاق على قضايا الحل النهائي بين السلطة الفلسطينية وحكومة بنيامين نتانياهو.
كشفت هذه التحولات النظام العربي وصدعت أركانه: سقط العراق، البوابة الشرقية، في يد إيران، وكانت واشنطن شريكاً لها في اختيار نوري المالكي لولايتين على رأس الحكومة، وربما جدد لثالثة افتتح معركتها بتسعير الصراع المذهبي مع المحافظات السنية وبحملة اتهامات للمملكة وقطر بدعم الإرهاب. وانخرطت الجمهورية الإسلامية وقواها الحليفة في المنطقة في الحرب دفاعاً عن النظام في دمشق التي كانت طوال عقود ثالثة الأثافي في قيادة العالم العربي مع السعودية ومصر، ولا طائل من الحديث عما يحدث في لبنان، ولم يبق للرياض وبعض شقيقاتها سوى التعويل على القاهرة من أجل الحفاظ على توازن يتداعى بفعل ما جرّ إليه «الربيع العربي» من انهيارات. وبفعل ما تحبل به الساحة السورية من تدخلات تسعى من خلالها طهران إلى تكريس نفوذها في الإقليم كله، وتسعى موسكو إلى استعادة ماض تليد لتكريس دورها لاعباً دولياً وازناً. كان تعويل بعض العرب لزمن على انخراط تركيا في شؤون الإقليم لعله يحد من غلواء إيران، رهاناً في غير محله لأسباب كثيرة باتت معروفة.
استبقت الرياض وصول الرئيس أوباما بتبديد الكثير من الأسئلة التي توكأت عليها إدارته لتبرير ابتعادها عن شركائها التقليديين، وعن تمنعها من الانخراط الجاد في إنهاء الأزمة في سورية. أعلنت جملة من القوانين التي تجرم القتال في الخارج، وقدمت لائحتها الخاصة بحركات «الإرهاب» الذي لم تتوقف عن مقارعته منذ أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من تفجيرات في المملكة نفسها. وحددت خياراتها في التعاقب على الحكم توكيداً للاستقرار والاستمرار. يبقى أن الأيام المقبلة ستكشف التزامات إدارة أوباما: هل تعيد النظر في الموقف من الحكم في القاهرة وتبادر إلى إعادة التعاون العسكري معها لوقف التوجه التسليحي نحو موسكو؟ وهل تتيح للمعارضة السورية عتاداً يوقف تقدم قوات النظام ويجبره على العودة إلى خيار الحل السياسي على أساس ما نص عليه بيان «جنيف 1»؟ وهل تعيد النظر في شبكة علاقاتها في العراق واستخدام نفوذها في كردستان والوسط والغرب وحتى في بعض الجنوب بما يتيح تداول السلطة ويطفئ النار المذهبية؟ والأهم من كل ذلك، هل تقصر حوارها على الملف النووي وتغض عن مقايضته بالحضور الواسع لإيران في الإقليم؟ الموقف الأميركي من أزمة أوكرانيا لم يكن مشجعاً، فهل يتكرر المشهد في المشرق العربي؟ إنها قمة تاريخية ومحطة مفصلية بامتياز. الكرة في ملعب أوباما.