خلال اليومين الماضيين كان اسم مصر على كل لسان في عواصم العالم، وكان اسم قاضي محكمة المنيا قد دخل التاريخ. إلا أن ذلك لم يكن مما يشرف الاثنين.. حتى أزعم أنها من قبيل الشهرة التي لا يتمناها أحد إلا لمن يكرهه ويريد التشهير به والانتقام منه. إذ لا يشرف مصر أن تذكر في الصحافة العالمية بأنها بلد إبادة المعارضين وأن يقارن نظامها بحكم النازيين في ألمانيا. كما يشين القاضي أن يذكر بحسبانه صاحب أغرب وأبشع حكم قضائي في العصر الحديث. وبسبب من ذلك فإنني سوف أستغرب كثيرا إذا لم تتم إحالة الرجل إلى الصلاحية لكي يحاسب على ازدرائه بالقانون وتلطيخ سمعة القضاء وإهانة مصر كلها، بعد الحكم بإعدام 528 شخصا في أعقاب محاكمة صورية تعد نقطة سوداء في تاريخ القضاء المصري.
ليست خافية الصدمة التي أصابت المجتمع المصري بمختلف شرائحه، وقد عبر عنها سيل التعليقات التي غمرت وسائل التواصل الاجتماعي، ووصفت ما جرى بأنه إرهاب يفتح الأبواب واسعة لنشوب الحرب الأهلية في مصر. وقرأنا بيانا غاضبا صدر باسم 16 منظمة حقوقية اعتبر ما جرى تحولا خطيرا غير مسبوق يشكك في جدارة القضاء المصري.
وقد استوقفني في هذا السياق تعليق لـ«بوابة يناير» ذكر أن قتل ضابط واحد ترتب عليه الحكم بإعدام 528 شخصا. أما إقدام 103 من الضباط على قتل 4876 مصريا بعد الثورة فإن القضاء برأهم جميعا. ولن أتحدث عن ذهول وفجيعة أهالي المتهمين والصدى المتوقع منهم في هذه الحالة. إلا أنني أشير بسرعة إلى أصوات شاذة مشبوهة وسيئة السمعة أعماها الحقد والكراهية رحبت بالحكم واحتفت به بصورة أو أخرى.
الصدمة التي حدثت خارج مصر لم تختلف كثيرا عن تلك التي حدثت في الداخل. ولئن كان الأمين العام للأمم المتحدة قد عبر عن «فزعه» حين سمع بالخبر، فلا غرابة في أن تشيع مشاعر الخوف في مختلف الأوساط التي تحاول جذبها إلى مصر، من سياح ومستثمرين. لقد عممت الصحف العالمية الفضيحة، وأصبحت عناوينها وتقاريرها على أن التدهور الحاصل في مصر ليس سياسيا واقتصاديا فحسب، ولكنه طال مرفق العدالة أيضا. وهو ما أفاضت فيه منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش. ووجدت أن موقع «كاونتر بانش» أورد تقريرا قارن فيه بين محاكمة النازيين في نورنبرج لمحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها في الحرب العالمية الثانية وبين المحاكمة التي جرت في المنيا، وكان عنوان التقرير الذي أعده الباحث عصام الأمين كالتالي: ما بين محاكمات نورنبرج والقضاء المصري «الشامخ»، وفي التقرير أن المتهمين حوسبوا في ألمانيا على مسؤوليتهم عن مقتل 40 مليون شخص على الأقل في أوروبا. وكان قضاة المحكمة أربعة يمثلون بريطانيا وأميركا وفرنسا والاتحاد السوفييتي. وفي المحاكمة التي استغرقت عاما كاملا عقدت خلاله 38 جلسة قدم 23 متهما، تمت إدانة 20 منهم. أما أحكام الإعدام فقد شملت 12 واحدا فقط.
في المقارنة وتحرير الفضيحة أورد الباحث تفاصيل ما جرى في محاكمة المنيا أمام ثلاثة من القضاة والمستشارين، ولم يفته أن يذكر أن رئيس المحكمة سبق له أن حكم ببراءة ضباط الشرطة الذين قتلوا 24 مواطنا أثناء ثورة يناير 2011. وأشار إلى أن المحكمة عقدت جلستين فقط في 22 و24 مارس استغرقتا 200 دقيقة ثم أصدرت حكمها الصاعق.
وذكر تقرير أصدرته منظمة كارنيجي (أعدته ميشيل دون وسكوت ويليامسون) أن الحكم تجاوز بكثير أي حدود عرفتها مصر منذ قامت ثورة عام 1952، حتى في أكثر أطوارها سوادا. وقد بلغ عنف السلطة فيه مدى لم يكن متوقعا بعد 30 يونيو 2013. واهتم التقرير بالمقارنة بين ضحايا الوضع الذي استجد بعد 3 يوليو 2013 وبين ضحايا سنوات حكم مبارك. فأشار إلى أن القتلى حتى آخر يناير الماضي عددهم 3143 شخصا. وأن الجرحى 17 ألفا في حين أن المحبوسين وصل عددهم إلى 19 ألف شخص. أما في سنوات العنف والإرهاب التي شهدتها سنوات حكم مبارك (في الفترة ما بين عامي 1992 و1998) فإن التقديرات الموثوقة تشير إلى أنهم كانوا في حدود 1500 شخص (خلال 7 سنوات).
الشاهد أن الحكم فضحنا ودفع مختلف الباحثين المعنيين بالشأن المصري إلى إدانة سلوك السلطة والإرهاب الذي تمارسه سواء من خلال قتل المتظاهرين السلميين. أو استخدام القضاء في إكمال المهمة والحكم بإعدام من يقدم إليهم من المعارضين.
يطول الحديث إذا تتبعنا سيل التعليقات والأصداء التي عبرت عن الصدمة والإدانة في العالم الخارجي إلا أنني ألفت النظر إلى أن ما جرى ينبغي ألا ينظر إليه فقط بحسبانه حكما استثنائيا وشاذا لم يعرفه تاريخ القضاء المصري، لأنه معبر أيضا عن رسائل ينبغي ألا تضيع وسط عاصفة الدهشة والغضب. ولئن ذكرت أنه يعبر عن جرأة البعض على القانون وازدرائهم به إلى حد الإطاحة بأبسط قواعد الإجراءات ومبادئ العدالة وضماناتها، فإنني أضيف أنه جاء تعبيرا عن أمور أخرى منها استخدام منصة القضاء لتصفية الحسابات السياسية، لأن ما جرى في القضية كان تصرفا خارج القانون وإن ادعى الانتساب إليه، وكان إلى البيان السياسي أقرب منه إلى الحكم القضائي.
منها أيضا أن ثمة شرائح في الوسط القضائي تمكنت منها عدوى الكراهية التي سمّمت الأجواء المصرية وأبدت استعدادا مدهشا للاستسلام لتلك المشاعر، حتى فيما تنطق به من أحكام.
منها كذلك أن استباحة الآخر أصبحت بغير حدود، باعتبار أن الحكم بإعدام أكثر من 500 شخص لا يختلف كثيرا عن قرار النظام النازي بإحراق ذلك العدد في أفران الغاز. من تلك الرسائل أنه في الساحة السياسية على الأقل فإن إقامة العدل وتحصيل الحقوق أصبح متعذرا في ظل قضاء كهذا الذي طالعناه في الحكم الأخير. وتلك لعمري أخطر الرسائل وأكثرها فداحة وإيلاما.
فهمي هويدي/شهرة لا تشرِّف
14
المقالة السابقة