** ملحوظة: هذا المقال كتب وتم صفه وتوزيعه قبل إعلان الفضيحة المدوية التي تمثلت في قرار محكمة جنايات المنيا بإعدام 529 من عناصر جماعة الإخوان الذين اتهموا بقتل ضابط والشروع في قتل اثنين، في سابقة تاريخية تعد أكبر إهانة للقضاء والثورة وللنظام القائم في مصر.
مطلوب من الإخوان أن يعلنوا موقفا صريحا وحاسما إزاء العنف المجنون الذي لاحت شواهده في الفضاء المصري.
(1)
لماذا الآن؟ ــ ردي على السؤال أن ثمة عوامل خمسة استدعت إطلاق هذه الدعوة. العامل الأول يتمثل في تعدد العمليات الإرهابية التي استهدفت مؤسسات الدولة والجيش والشرطة. وكلها تمثل خطوطا حمراء لا ينبغي لأي صراع سياسي أن يعتدي عليها أو ينال منها. وحادث مسطرد الأخير الذي قتل فيه ستة من جنود الجيش وقبله تفجير مديرية أمن القاهرة ومما قيل عن استهداف بعض محطات الكهرباء. هذه كلها مؤشرات دالة على أننا بصدد الدخول في منعطف خطر ينبغي التصدي له بكل حزم، خصوصا بعدما تعددت الشواهد الدالة على أن جماعة أنصار بيت المقدس وثيقة الصلة بتنظيم القاعدة المتمركزة في سيناء قد مدت نشاطها إلى داخل مصر.
العامل الثاني أن مصر مقبلة على انتخابات رئاسية. أيا ما كان رأينا في عناوينها وتفاصيلها فإنها تمثل استحقاقا نريد أن نستثمره بحيث يصبح عنصرا إيجابيا يصحح المسار ويعيد إلى السياسة اعتبارها. أملا في أن يساعد البلد على اجتياز الفترة العصيبة المقبلة، التي تتعرض فيها مصر لضغوط اقتصادية تفوق طاقة احتمالها كدولة وكمجتمع يعيش في كنفه 90 مليونا من البشر.
العامل الثالث أننا تلقينا رسالة من المتحدث باسم الإخوان، الدكتور جمال حشمت بثتها قناة «الجزيرة» يوم السبت الماضي 22/3 تحدث فيها عن استعداد الجماعة لاتخاذ خطوتين إلى الوراء، لم يحددهما، وإن أشار إلى ضرورة جمع شمل القوى الوطنية لاستعادة المسار الديمقراطي. وأهم ما في الرسالة أنها بمثابة إعلان عن اتجاه الجماعة إلى التعامل مع الواقع المستجد، وانتقالها من الانشغال بحصتها في السلطة إلى التفكير في مستقبل الوطن. وهي رسالة تستحق أن تؤخذ على محمل الجد كما تستحق أن تختبر.
العامل الرابع يتمثل في أن مصر كلها ظلت طوال الأشهر الثمانية الماضية (منذ الثالث من يوليو عام 2013) مشغولة بموضوع الصراع ضد الإخوان، في الوقت الذي يتراجع فيه دور ووزن الدولة المصرية، كما تغيب فيه أهداف الثورة التي لم يعد كثيرون منشغلين بها، ناهيك عن الذين عمدوا إلى تجريحها. فضلا عن ذلك فإن الأجواء المخيمة فتحت الأبواب لتسرب أبواق نظام مبارك وبعض رموزه، الذين دخلوا علينا من باب الاصطفاف ضد «العدو المشترك» المتمثل في الإخوان، في حين أن سهامهم الحقيقية استهدفت قلب الثورة التي اعتبروها مؤامرة ووبالا على مصر حل بها ضمن أصداء «الخراب» العربي على حد قول بعضهم.
العامل الخامس يتصل بتعالي نبرة الغضب بين الشباب في الجامعات بوجه أخص، وهو الغضب الذي لم يتوقف طوال الأشهر الماضية، ولم تفلح الأساليب البوليسية ولا الأسوار والتحصينات التي أقيمت في احتواء ذلك الغضب. وكانت النتيجة أن مئات منهم ألقوا في السجون وفصلوا من كلياتهم وأصبح مستقبلهم مهددا بالضياع. الأمر الذي ينبغي وضع حد له والحيلولة دون استمرار تدهوره.
(2)
لن نذهب بعيدا إذا ما اعتبرت أن ما أدعو إليه هو التوصل إلى «هدنة» من طرف واحد لتهدئة النفوس والتقاط الأنفاس وفتح الباب للتدبر والمراجعة. وحتى أكون أكثر دقة ــ ولكي لا يلتبس الأمر على أحد ــ فإننى لا أرى غضاضة ولا مانعا من أن يستمر الصراع كما هو شريطة أن يظل سياسيا وسلميا، بحيث يوصد الباب تماما أمام العنف بكافة وسائله وتجلياته. إلا أن الأمر ليس سهلا، ودونه عدة عقبات تتمثل فيما يلى:
< عبء التاريخ القريب الذي يغذى مشاعر العنف والثأر. ذلك أن ملف الضحايا الأبرياء والمظلومين الذين سقطوا خلال الأشهر الثمانية، ناهيك عن الذين سقطوا منذ قامت الثورة عام 2011، خلف مرارات يصعب تجاوزها ونسيانها. ساعد على ذلك أن الجراح تركت مفتوحة بغير تطهير أو علاج فخلفت رصيدا لا يستهان به من مشاعر البغض والرغبة في الانتقام.
< أجواء الكراهية المخيمة التي تمكنت من قطاعات عريضة من المجتمع وجعلت كثيرين يستهجنون فكرة الهدنة، بعدما أقنعتهم حملات التعبئة المضادة بأن الطرف الآخر هو مصدر كل الشرور، وانه لا بديل عن اجتثاثه وإبادته. وهى الرسالة التي نجحت الأبواق الإعلامية في تعميمها على الكافة. من خلال الإلحاح اليومي عليها.
< مواقف التجمعات السياسية والعناصر الملتفة حولها، التي لم تستشعر حضورا ولم تكتسب وزنا إلا في غياب الطرف الآخر، وهى ذاتها التي أدركت أن وجودها بات مرهونا باستمرار تحالفها مع المؤسسة العسكرية والأمنية. ومن مصلحة تلك التجمعات أن تستمر المواجهة وان يحقق العنف هدفه في القضاء على الآخر والخلاص منه.
< موقف جناح الصقور في السلطة المتضامن مع المؤسسة الأمنية، الذي يصنف الصراع الحاصل بحسبانه مواجهة ينبغي أن تنتهي بتحقيق انتصار قوة السلطة وهزيمة معارضيها، وليس أزمة تنتهي بتوافق الطرفين وانتصار الوطن. وتشير خبرة الأشهر التي خلت بأن ذلك الجناح هو الذي أدار المواجهة ضد الثالث من يوليو عام 2013 وحتى الآن.
< هناك أكثر من عقبة فيما خص جماعة الإخوان، واحدة تتعلق بإمكانات التواصل بين قيادات الداخل المحبوسين في السجون وقيادات الخارج الذين بقوا في مصر على ندرتهم أو الذين تواجدوا خارج البلاد، ثم هناك مشكلة التوافق بين الأجيال المختلفة داخل الجماعة، خصوصا جيل الشباب. وهؤلاء دفعوا ثمنا غاليا في تجربة المواجهة الراهنة، وتتردد في أوساطهم أصوات التمرد على كل ما هو قائم، ومعها أصوات فقدان الثقة في آلية الديمقراطية التي كانوا هم ضحاياها. هناك مشكلة ثالثة تتعلق بصيغة التحالف من أجل الشرعية، التي ضمت مجموعات إسلامية اتفقت في أشياء واختلفت في أشياء أخرى، ولم يكن ذلك مقصورا على الاجتهادات الفكرية فحسب، ولكنه شمل الرؤى والتقديرات السياسية أيضا، ومن الأمور الخلافية التي برزت مؤخرا ما عبر به البعض من اعتبار القوات المسلحة عدوا أو أيدي استهداف مقار الشرطة وعرباتها.
(3)
لن اختلف مع من يقول إن للأزمة طرفين وإن الهدنة إذا قدر لها أن تقوم فينبغي أن يتوافق عليها الاثنان. وليست هناك هدنة من طرف واحد. لكنني أقول إن ذلك هو الوضع الأمثل والهدف النهائي، وكثيرا ما تتعامل السياسة مع الممكن وليس الأمثل. ثم إن الوصول إلى الهدف النهائي يقتضي أحيانا اجتياز أهداف مرحلية، وليكن ما أدعو إليه في إطار ما هو مرحلي. ثم إن توافق الطرفين يكون مطلوبا في الصراعات بين الدول، التي تريد به دولة أن تكسر إرادة دولة أخرى وان تفرض عليها شروطها، لكن استمرار الصراعات السياسية في داخل الدولة الواحدة يكون سحبا من رصيد ووجود الدولة ذاتها، بحيث تصبح هي الخاسر الأول. في حين يكون الفائز الحقيقي هو الطرف الذي يضحي لأجل أن تبقى الدولة وينتصر الوطن. وما صار إليه موقف الدولة المصرية الآن من تدهور اقتصادي وتراجع سياسي يفرض على الغيورين على البلد والمحبين له أن يراجعوا مواقفهم، وأن يكونوا على استعداد لتقديم التضحيات التي تمكنها من اجتياز الأزمة والخروج من النفق المظلم. ولا أستطيع أن أصف ما أدعو إليه بأنه تضحية أو تنازل عن قيم ومبادئ، وإنما هو لا يتجاوز حدود إزالة الالتباس ودفع الشبهات، وهو ما أرجو أن يشكل أرضية لأي تحرك يستهدف التوافق والتقدم الإيجابي في وقت لاحق، وإذ أكرر فكرة القبول باستمرار الصراع السياسي الذي يعتمد الأساليب السلمية والديمقراطية، فإنني أشدد على أن قضيتي الأساسية هي حسم الموقف من العنف والإرهاب أيا ما كان مصدره. أدري أن الإخوان ومعهم تحالف الشرعية أصدروا بيانات كما عبروا عن تصريحات بهذا المعنى في مناسبات سابقة إلا أنها لم تكن حاسمة ولم تصدر عن قيادات الجماعة فضلا عن أن التصريحات التي صدرت عن بعض أطراف التحالف المذكور بدت متناقضة معها. كما أنني لا أستطيع أن أتجاهل أيضا أن الصخب الإعلامي الداعي إلى الإثارة أو الحريص على تأجيج مشاعر الكراهية طغى على تلك الأصوات حتى محا أثرها.
ما أدعو إليه هو إعلان موقَّع من قيادات الإخوان في داخل السجون وخارجها يرفض العنف ويدين ممارساته ويتبرأ من الأصوات الداعية إليه سواء من داخل الجماعة أو خارجها، كما يؤكد على مواصلة النضال السلمي لتحقيق أهداف الثورة جنبا إلى جنب مع فصائل الجماعة الوطنية الأخرى. في الوقت ذاته يؤكد الإعلان على ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة، ويدين أي اعتداء على القوات المسلحة والشرطة.
لا أعرف إلى أي مدى يمكن أن تتوافق الجماعات المنخرظة في «التحالف» على تلك النقاط، وإن كنت أثق في تضامن بعضها مع الدعوة، خصوصا حزبا الوسط والبناء والتنمية الذي يمثل الذراع السياسية للجماعة الإسلامية. وفي كل الأحوال فإن صدور الإعلان عن الإخوان مهم ومطلوب، خصوصا إن كل الممارسات الحاصلة داخل مصر تنسب إليهم. ولو صدر في الوقت ذاته عن التحالف أو بعض مكوناته فستكون تلك إضافة جيدة.
لست هنا بصدد الدفع باتجاه إدارة الأزمة، ولا أجد في الدعوة مقترحا لحل الأزمة، إذا استخدمنا المصطلحات التي أشار إليها الدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية في مبادرته التي طرحها واعتبرها مدخلا لحل الأزمة. إذ أزعم أن ما أدعو إليه أكثر تواضعا، من حيث إنه لا يسعى إلى أبعد من إبراء الذمة وتخفيف حدة الأزمة أملا في أن يؤدي ذلك إلى أفق الحل الذي دعت إليه مبادرة الدكتور نافعة أو غيره.
(4)
لا أحتاج إلى بذل جهد لرصد الأصداء المتوقعة على الجانبين. الرافضون والمتشككون والكارهون من ناحية، والغاضبون الداعون إلى الثأر للضحايا والمتعصبون من أعضاء الجماعة من ناحية ثانية. وسهام الاتهام الجارحة والمسمومة التي استهدفت الدكتور حسن نافعة وتلك التي استقبلت كلام الدكتور جمال حشمت الأخير، كافية في التدليل على أن كل من يحاول الاقتراب من ملف الحل من أي باب لن يخرج سليما، وللأسف فإن الرافضين لأي خطوة إيجابية تعيد السلم الأهلي إلى البلد لا يقدمون بديلا يحفظ لكل طرف كرامته وإنسانيته.
لقد تناقلت وسائل الإعلام مطالبات على ألسنة نفر من السياسيين تتحدث عن الاعتذار أولا، ومنهم من تدلل وقال: دعونا نفكر في الموضوع بعد إعلان الاعتذار. ولست أجد غضاضة في الاعتذار شريطة أن يتم بعد إجراء تحقيق محايد ونزيه في الأحداث التي وقعت. الأمر الذي يمكننا بعد ذلك أن نجيب على أسئلة من قبيل: الاعتذار عن ماذا بالضبط؟ ومن يعتذر لمن؟ ومن يستحق أن يساءل أو يعاقب على الجرائم التي ارتكبت بحق الثورة خلال السنوات الثلاث التي أعقبت نجاحها؟
إن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل الماضي أو ينساه، لكنني أزعم بأن استحقاقات حاضر الوطن ومستقبله وجسامة تحدياته التي تلوح في الأفق تفرض علينا أن نعطيها الأولوية في الوقت الراهن ولو تم ذلك ببعض التضحيات. وأذكِّر في هذا الصدد بأن مصر أكبر من الطرفين المتصارعين، ناهيك عن أنه لا يستطيع أي طرف ولا ينبغي له أن يدعي أنه وحده يمثل مصر.