عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
هذه الذكرى الأولى لرحيل الفارس الاردني عبد الهادي المجالي والذي ترك رحيله فراغا ليس في العائلة وانما في كل البلاد في الوطن الاردني الذي أحبه “ابو سهل” واخلص اليه وفي البلاد العربية التي عرفته فارسا في الدفاع عن امنها وحقها سواء في فلسطين او العراق..
رحل ابو سهل مظلوما وهذا ما كتبته عنه يوم وفاته، فقد كنت مريضا لم استطع وداعه او المشي في جنازته وكثيرون مثلي ومنهم شقيقه الغالي عليه عبد الحي المجالي الذي اقعده المرض، اذ قال علي بن ابي طالب “لا يقهر الرجال الا المرض”..
صنع ابو سهل لنفسه اسما (والاشخاص هم من يصنعون نسبهم وعائلاتهم قبل ان تصنعهم العائلة)، وأبو سهل كان عصاميا اعتمد على نفسه حين كان طالب هندسة في بغداد يعيش الكفاف، وقد اخذ طريقه الى الجندية حين تخرج ليكون في سلاح الهندسة ويتدرج في العسكرية حتى اصبح قائدا رئيسا لهيئة الاركان الجيش العربي ..
كان ابو سهل طيب النفس .. والذين عرفوه عن قرب عرفوا بساطته وطيبته وبذله، اما الذين لم يعرفوه وقد تعرضوا للاشاعة والدس وراحوا يرجمون الشجرة المثمرة فقد ظلموه.. لقد كان له حسادا ومبغضين حين لم يسمح لهم بحكم مواقفه ان يمروا أو يشوهوا صورة البلد التي احبها وامن ببقائها..
عرفته المناصب واحبته واعطاها حتى رغب الكثيرون فيها من بعده، فقد احب الجندية واخلص لها واحب بعد ذلك ان يدخل الحياة المدنية فدخلها من اوسع ابوابها سفيرا للاردن في الولايات المتحدة الامريكية، وهناك خدم خدمة مميزة، فقد كان على علاقة مميزة مع القادة الامريكيين في الادارة والكونغرس والجيش، سعوا لها بمقدار ما كان يرغب، والتقى بالعديد منهم فقد التقي رؤساء امريكيين منهم ريغان، وكان قادرا ان يقنع كل من التقاه، فقد رسم صورة للاردن ظل الملك الراحل الحسين يرغب في رسمها ، ولذلك قال له حين ارسله للسفار في واشنطن وقد سأله عبد الهادي عن توجيهه ” ارسل حكيما ولا توصه”، انها بلدك يا ابا سهل ولا جديد لدي لأقوله لك على بركه الله..
كان مبدعا في سفارته وكثير من المراقبين ادركوا كيف تطورت علاقات الاردن انذاك مع الادارة وكيف تخلص الاردن من ضغوط هائلة و من استحقاقات كان يمكن فرضها .. ظل ابو سهل على اتصال مباشر مع الملك الحسين يضعه في الصورة وقد كادت له بعض اطراف السلطة التنفيذية واتهمته بالقفز عن المرجعيات كوزير الخارجية انذاك و رئيس الوزراء انذاك والذين لم يكونوا كما قال ابو سهل بعد تجربه يوصلون رسائله او يتوقفون عند اهم القضايا التي كان يبثها في رسائله لهم.. واستطاعوا اخيرا ان ينقلوه من واشنطن ليعود الى منزله ويعتكف الى ان اقنعه صديقه زيد الرفاعي ان يقبل بأن يأخذ منصب مدير الامن العام بعد ان رفض ابو سهل ان يذهب سيفيرا الى اليابان..
وفي جهاز الامن العام ابدع ابو سهل فقد اعاد انتاجه على شكل مؤسسي وكثير من قادة الجهاز الان ممن عايشوه في بدايتهم يدركون ذلك، فقد اعاد الاعتبار للجهاز ودوره، و للمنتسبين وحقوقهم، كما ابعد الجهاز عن المخالفات وجعله شريكا في الامن والبناء، وكان كريما على الجهاز بالتحديث فقد بنى جهاز السيطرة في زمنه و بكلف متواضعة، فكان ذلك في مستوى الدول المتقدمة..
ومازال جهاز الامن العام ينظر الى فترة مسؤولية الفريق اول عبد الهادي المجالي بانها الافضل والاكثر عملا و إنجازا..
كان ابو سهل في جهاز الامن قد اختبر الكثير من المواقف وادرك ان الحلول لكثير من المشاكل هي حلول سياسية، وان الامن القادم من الرضى والمشاركة هو الان الحقيقي وليس الامن العام القادم من القوة والبطش او التهميش، ولذا كان دائم التفكير في اقناع الملك بضرورة ان تنطلق احزاب وطنية برامجية.
كان يتحدث في ذلك وهو مدير للامن العام وكان ينتظر فلما اقام الملك اللجنة الملكية للميثاق الوطني التي شرعت للاحزاب احتفى ابو سهل لذلك وانخرط فورا في بناء الأحزاب، فأسس اكثر من حزب وشارك في اكثر من ائتلاف فكان أن اسس حزب العهد ثم الوطني الدستوري واخيرا حزب التيار الوطني الذي ما زال قائما حتى الان بقيادة الدكتور صالح ارشيدات..
كان ابو سهل جريئا يدعو الى اصلاح سياسي حقيقي وهي الدعوة التي جلبت له المتاعب واستعدت عليه كثير من القوى التي لا تؤمن ببناء الاردن القوي، فقد دعا ابو سهل لتداول السلطة على مستوى الحكومات حين دعا لانتخاب رئيس الوزراء، وقد قال ذلك في كلمه له امام البرلمان، جرى لوم رئيس الوزراء انذاك السيد علي ابو الراغب لانه سمح لها ان تقال تحت القبة، ولم يتراجع او يتردد وبقى يعاود الترشيح للبرلمان واصبح رئيسا له لثماني دورات وهي اطول مدة شغلها شخص في البرلمان، وكان فيها قد اكسب البرلمان هيبة ودورا بحكم كاريزما تمتع بها ويفتقر لها الكثيرون..
في البرلمان كان مهابا وكان البرلمان يحسب له حساب و استطاع ان ينتصر لقضيتين اساسيتين الاولى لقضية فلسطين حين قاد وفدا برلمانيا الى رام الله كنت فيه بمعيته والتقى الرئيس الراحل عرفات ، كما التقى بعد ذلك وفدا اخر زار فيه القدس ودخل المسجد الاقصى دون ان يستاذن سلطات الاحتلال، فحاولوا الاعتداء عليه قبل ان يخرج بسلامة على يد افراد من الامن الفلسطيني الذين وفروا الحماية، كما قام بزيارة الخليل وهناك حاول الجنود والمستوطنون الاعتداء عليه لكن المجموعة التي قادها اللواء آنذاك جبريل الرجوب أخرجته ، وقد شعرت إسرائيل بالاحراج حين تجاوز قراراتها الاحتلالية..
وظل الباشا وفيا لما آمن به وظل يرى ان مستقبل الشعبين واحد و ان تغيرت الاوضاع والمهمات، اما على جبهة العراق فقد راهن ابو سهل على الامة التي خذلت العراق وراهن على صمود العراقيين الذين جرى طعنهم، ولذا وضع امكانيات البرلمان الاردني الى جانب العراق وكنت وكثيرون قد سافرنا مع عديد من اعضاء البرلمان الاردني حيث عقد اجتماع بين البرلمانيين الاردني والعراقي وقيادة البرلمانيين على الارض العراقية قريبا من طربيل مما ازعج الادارة الامريكية التي وصلتها من ذلك اشارات قوية ..
ويبدو ان رغبة ابو سهل في ممارسة قناعاته قد اتعبته وجلبت له الكثير من المتاعب، فأدرك خصومه ضرورة استمرار حصاره وتكبيله واحاطته بمن يحاولون افشال اي خطوات في اعادة بناء الحياة السياسية لتكون الحكومات برلمانية ومنتخبه والبلاد ملكية دستورية يظلها الدستور ويخدمها دون مواربة، ولذا فما ان حاول الترشح مرة اخرى حتى اتخذ قرارا بعدم تمكينه من النجاح ولكن ناخبيه وقفوا الى جانبه بكثافة واسقطوا خطة افشاله ونجح والكثيرون لديهم التفاصيل..
في السنوات الاخيرة من حياته جرى تهميش مواقفه ومحاولة حجب اراءه والكيد له وتسليط الكثير من المجندين للتشوية ضده، وحاولوا ان يصيبوا الحزب الذي بناه وان ينالوا منه، وحين رأى انه ينفخ في قربة مخزوقة اعتزل الحزب، او حاول ودعا قيادة الحزب التي رأت ان تستمر في حمل المسؤولية، وقد حزّ في نفسه ان الدولة كلها والتي دعت للحياة الحزبية وشرعتها لم تكترث لحل الحزب او طلب وقفه وتجميده ، رغم انه الحزب الاهم لجهة البرامج ولجهة الصفة الوطنية وحتى في الترتيب العادي الى جوار حزب جبهة العمل الإسلامي.. وكان ذلك التهميش او عدم الاكتراث كافيا ان يقنعه بضرورة ان يجلس في بيته رغم انه انفق على الحزب كل ما يستطيع وان اوضاعه المالية التي آلت الى الافلاس ..
لقد رحل ابو سهل مديونا، ولولا ان رجل الاعمال الدكتور فطين البداد اشتري دينه بشراء منزله في دابوق لما استطاع ان يسدد ديونه للبنك الكويتي..
نعم رحل ابو سهل ولم تنجح الاشاعات الموظفة التي اطلقها المغرضون عنه بالقول انه احتفى باستكمال المليار الاولى ولا حتى الاتهامات انه عقد صفقة سيارات “اودي” فقد اثبتت الزمان ان ذلك كذب وافتراء، والاّن على من روّجوا ذلك لاسبابهم ان يظهروا الان بعد ان نشر ابو سهل غسيله على الحبال ولم يعد يخفي شيئا فالموت لحظة صدق ..
على من كادوا وتآمروا عليه ان يعتذروا للجمهور الذي سمعهم فقد حاولوا اغتياله حيّا شأن الكثير من الشخصيات التي اعطت وجرى اغتيالها لنشهد اليوم ان كل قياداتنا إمام اغتيلت او شوهت، أو اندحرت بعد طول معاناة، فهل يستمر ذلك والى متى؟ ..
رحم الله ابو سهل والعزاء كل العزاء في محبيه جميعا على امتداد الى ارض الوطن..